في دائرة الضوء

عبد الكريم بن عتيق يكتب: لماذا الإصرار على تجاهل الحقائق التاريخية للصحراء المغربية؟

ونحن نتابع يوميا تفاصيل ما حدث بمعبر الكركارات، استشعرنا ضرورة الرجوع إلى الوراء للنبش في مجموعة من الدراسات التي تناولت القضية الوطنية، هدفنا هو محاولة القيام بقراءة تركيبية لوقائع وأحداث بنفس ينسجم مع تساؤلات اليوم، الهدف هو تقريب الأجيال الحالية من هذه الاجتهادات المتميزة التي كان من ورائها ثلة من الباحثين والدارسين، آملين تقديمها في شكل تسلسل كرونولوجي وبنفحة تطغى عليها القراءة السياسية لمعطيات يسعى الخصوم طمسها اليوم، إما عن طريق تزويرها أو جرنا إلى نقاشات تتسم بالعموميات وغير مستوعبة للتفاصيل الدقيقة لمجريات الأحداث.

  • تجاهل مقصود لحقائق دامغة

عندما نستقرئ المسار التاريخي للدولة المغربية، نجد أن كل من تعاقبوا على حكم المملكة المغربية، بدء من المرابطين بجذورهم الجنوبية والذين جعلوا من مراكش نقطة إنطلاق لدولة كبيرة امتدت من الصحراء المغربية لتصل إلى مناطق عديدة منها الأندلس، مرورا بالحضور القوي للأقاليم الجنوبية في المنظومة الجغرافية والسياسية لدولة الموحدين والمرينين، وصولا إلى حكم السعديين بدولة امتدت من المحيط الأطلسي إلى تخوم السودان، ثم إلى مرحلة الدولة العلوية حيث احتل ولا يزال أهل الصحراء موقعا ومكانة متميزة لدى السلاطين  العلويين.

جل الدارسين وأهل الاختصاص والمتتبعين للشأن المغربي مغاربة و أجانب، يقرون بأن المغرب دولة لها جذور تاريخية تكونت عبر قرون، الاستعمار الأوربي بشقيه الفرنسي والإسباني قبل وبعد مؤتمر الجزيرة الخضراء، كان يعترف بالسيادة الكاملة للدولة المغربية على أراضيها، هذه السيادة تجسدت في مؤسسة السلاطين الدين تعاقبوا على الحكم ومارسوه بتعاقد قائم بينهم وبين المغاربة، من هنا نؤكد ما إتفق حوله الدارسون من بينهم الأستاذ عبد الله العروي عندما اعتبروا عقد الحماية نوعا من التفويض السلطاني المؤقت انتهى باسترجاع السلطان لكافة اختصاصاته، لذلك وانطلاقا من هذه القناعة الثابة لدى الجميع،  فإن مفوضات “إيكس ليبان” وعودة الملك الشرعي من المنفى ثم إعلان استقلال المغرب سنة 1956، لم يؤدي إلى خلق دولة جديدة لأن هذه الأخيرة لم تنمحي أثناء فترة الحماية.

واستمرارا على هذه الرؤية ولتذكير البعض بجزء من البديهيات التاريخية، خاصة من يتجاهل عن قصد شرعية تواجد المغرب في صحرائه، يكفينا الرجوع إلى مجموعة من الأبحاث و الدراسات التي تعمقت في الحضور المؤسساتي المغربي بالأقاليم الجنوبية، والتي تناولت بالدرس والتحليل وثائق عديدة تثبت ذلك، جزء كبير منها لا زال محفوظا في أرشيفات مجموعة من الدول المعنية بالموضوع، مثل نزول الإنجليزي “ماكينزي” سنة 1879 بشواطئ طرفاية مدعيا أنها أرضا خلاء، لكن بفضل ضغط الدولة المغربية، آنذاك وقعت بمراكش اتفاقية في 6 يوليوز 1895، بفضلها استرجع المغرب البنايات التي أنشأها الإنجليزي بمدينة طرفاية، هو إذا حسب المؤرخين اعتراف بريطاني آنذاك بأن طرفاية والأراضي الواقعة جنوبها جزء لا يتجزأ من المملكة المغربية الشريفة، ومن تم لا نزول بشواطئها إلا بإذن خاض من سلطان المغرب. في نفس الاتجاه لكن في سياق تاريخي آخر، عندما وقعت إسبانيا وفرنسا معاهدة سرية سنة 1904 والتي أتت بعد اتفاقية نونبر 1902 التي لم يوافق عليها البرلمان الإسباني، خصصت لمدريد بمقتضى هذه الاتفاقية منطقتين بالشمال والجنوب، مع التزام بين الطرفين على أن المناطق التي تخضع للحماية الإسبانية يجب أن تكون تحت نفوذ خليفة للسلطان، من أجل هذا تم تعيين الأمير المهدي بن إسماعيل بظهير 14 ماي 1913 خليفة للسلطان بتطوان، ومن تم كل مناطق الحماية الإسبانية بالشمال والجنوب كانتا خاضعتين لخليفة السلطان بالشمال، لتأكيد  ذلك استعان المؤرخون المغاربة بوثائق مهمة لا يرقى إليها الشك مثل تعيين السيد ” السالك بن عبد الله” من طرف خليفة السلطان بتطوان، خليفة له على طرفاية بعد احتلالها من طرف الإسبان سنة 1916، وذلك بظهير خليفي مؤرخ ب 22 دجنبر 1917، ثم تعيين السيد “محمد الأغضف بن الشيخ ماء العينين” خليفة لخليفة السلطان بتطوان على سيدي إيفني بعد احتلالها سنة 1934، بظهير مؤرخ ب 1 أكتوبر 1934، ينضاف إلى كل هذا تأكيد أهل الاختصاص، أن كل القوانين التي كانت تصدر عن خليفة السلطان بتطوان، هي وحدها المرجعية التطبيقية بالأقاليم الصحراوية الخاضعة للنفوذ الإسباني، وكمثال على هذا الحضور القانوني، الظهير الخليفي المؤرخ ب 12 فبراير 1941، والذي أكد على مغربية المياه الإقليمية للشاطئ الممتد من مصب درعة إلى أقليمي طرفاية والساقية الحمراء.

وجدير بالذكر هنا أن الاستعمار الإسباني  اقتصر في البداية على التواجد في مركز الداخلة، أما المراكز الأخرى فلم تعرف حضورا إسبانيا إلا بعد سنوات عديدة كمركز طرفاية في 9 يونيو 1919، والكويرة في 30 نونبر 1920، وسيدي إيفني في 6 أبريل 1934، أما المناطق الباقية فلم تدخلها الإدارة الإسبانية إلا بعد سنة 1939، السبب في ذلك هو وجود مقاومة شرسة قادها أهل الصحراء، أشار إليها كذلك المؤرخون في كتابات متعددة من بينها، معركة ” كجوجيت” في مارس 1908، ومعركة “كجوجيت الثانية” في ماي 1908، ثم معركة ” خروفة” سنة 1907، ومعركة ” الشملان” سنة 1906، فمعركة ” الغزلان” سنة 1908، ضف إليها محطات أخرى مشرقة من المقاومة الباسلة، كمعركة “سيدي بوعثمان” سنة 1912 شمال مراكش والتي واجهت فيها القبائل الصحراوية المستعمر الفرنسي. حجج أخرى دامغة تؤكد التلاحم الذي عرفه مسار المقاومة المسلحة المرتبط بالحركة الوطنية، و الذي اعتبر آنذاك إستقلال المغرب ناقصا دون أقاليمه الصحراوية، تجسد هذا التلاقي على أرض الميدان في معارك قوية في ما بين سنة 1956 و1958، يوم اتخذت القيادة الميدانية للمقاومة المغربية فندق بوعيدة بكلميم كمقر مركزي لها، معارك أنخرط فيها المقاومين المغاربة من الجنوب إلى جانب رفاقهم من الشمال في تلاحم نضالي، مشاركين جميعا في معارك عديدة نذكر منها معركة “مركالة” في غشت 1956، ومعركة “الرغيوة” في دجنبر 1957، معركة “الشاطئ” في نونبر 1957، ومعركة “بوجدور” في نونبر 1957، ثم معركة الدشيرة في يناير 1957.

  • للقضية الوطنية مسار تاريخي:

في سنة 1960 وضعت المملكة المغربية طلبا لدى الأمم المتحدة تدعو إسبانيا إلى الجلاء عن الأراضي المستعمرة بالصحراء المغربية، الجواب الإسباني جاء في 19 أبريل 1961، عندما أكدت مدريد أن الصحراء إقليما إسبانيا، وفي سنة 1963 اللجنة الخاصة بتصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة إعتبرت الأراضي الصحراوية مشمولة باختصاصاتها، تبعا لذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة في دجنبر 1965 أصدرت قرارا تطالب فيه بإنهاء الاستعمار، وفي السنة الموالية جدول الأعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 22 ناقش قضية الصحراء المغربية من جديد، لكن هذه المرة انطلاقا من عرائض قدمتها إسبانيا والمغرب وموريتانيا كل من جانبه يقر بأن الصحراء الغربية جزء من أراضيه. في 20 دجنبر 1966 الجمعية العامة للأمم المتحدة تصدر التوصية رقم 29.22 تقترح فيها تقرير المصير في الصحراء من خلال استفتاء عام للسكان، رد فعل مدريد هو إنشاء في سنة 1967 الجماعة الصحراوية التابعة لها، ثلاث سنوات بعد ذلك انعقد بمدينة “نواذيبو” الموريتانية قمة مغاربية ثلاثية ضمت كل من الملك الحسن الثاني والرئيس بومدين والرئيس الموريتاني المختار ولد داداه ، كان موضوع اللقاء هو مناقشة مسألة الصحراء، الرئيس الجزائري عبر صراحة وعلانية على أن لا أطماع لبلاده في المنطقة، في 5 يوليوز 1974 الحسن الثاني يبعث برسالة إلى الجينرال “فرانكو” ينبهه من ضرورة تفادي  القيام بمبادرات فردية بشأن الصحراء، وفي نفس الشهر يطلب الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، جواب مدريد جاء في 20 غشت 1974 بإعلانها نيتها تنظيم استفتاء لتقرير المصير  ابتداء من غشت 1975 .

عندما أكدت إسبانيا أن الصحراء الغربية الموجودة جنوب خط العرض 27.4 درجة لا توجد داخل التراب المغربي المعني بالاتفاقيات الدولية، هنا تغير موقف الجزائر المعلن عنه في لقاء “نواديبوا” معتبرة الموقف الإسباني فرصة لإبعاد الصحراء عن المغرب،  مما سيجعل النقاش محصورا فيما بعد بين إسبانيا و اللجنة الأممية لتصفية الاستعمار، من هنا يجب التأكيد والاعتراف بأن فكرة التوجه لمحكمة العدل الدولية من طرف الراحل الحسن الثاني كان عملا استباقايا ذكيا بعمق استراتيجي، تمثل هذا العمق في القدرة على تطويق الأطروحة الإسبانية وتحويل النقاش حول الصحراء المغربية من ثنائية إسبانيا و لجنة الاستعمار إلى صراع مغربي إسباني، عن طريق طرح سؤال جوهري غير مسار القضية عالميا ونقصد بذلك التطرق إلى سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية. قبول الأمم المتحدة فكرة استشارة محكمة العدل الدولية هو في حد ذاته اعتراف بأن المشكل المطروح آنذاك يقتضي تفاوضا مباشرا بين المغرب و الجارة إسبانيا، عندما نعود إلى المواقف السياسية لتلك الفترة نجد الجزائر في البداية قبلت اقتراح فكرة استشارة محكمة العدل الدولية، لكنها تراجعت بسرعة وصرحت بأن رأي محكمة العدل الدولية لا يمكن ان يلغي مبدأ تقرير المصير، هذا الموقف أدى إلى أول اصطدام علني بين الرباط والجزائر لا سيما وأن المغرب ركز في مرافعاته أمام قضاة محكمة العدل الدولية على أن قبائل الصحراء كانت تجمعها روابط البيعة مع سلاطين المملكة المغربية وذلك عبر قرون متتالية، الجزائر لنسف هذه الأطروحة، استعملت المنظومة القانونية الغربية متجاهلة خصائص المرجعيات القانونية الإسلامية التي توسعت وتعمقت في الدلالات الشرعية لمفهوم البيعة، متشبثة بمفهوم تقرير المصير للتأثير على قضاة محكمة العدل الدولية المطوقون بتكوينهم المتشبع بالمدارس القانونية اللاتينية.

  • من الحياد الشكلي إلى طرف الأساسي في معاكسة مصالح المغرب

الجميع كان يعرف أن الصحراء المغربية المحتلة كانت تمثل المنطقة الجنوبية للحماية الإسبانية في مقابل منطقة حماية أخرى بشمال المغرب، إبان الاحتلال كانت الصحراء المغربية تنقسم إلى عدة مناطق هي منطقة سيدي إيفني ومنطقة طرفاية ومنطقة الساقية الحمراء ثم منطقة واد الذهب، إسبانيا لم تسلم هذه المناطق الأربعة للمغرب رغم التصريح الإسباني المغربي المشترك الصادر في 7 أبريل 1956، بعد مرور سنتين على هذا التصريح إسبانيا تقرر بمقتضى مرسوم فرانكو الصادر في 10 يناير 1958، جعل سيدي إيفني إقليما إسبانيا وطرفاية والساقية الحمراء وواد الذهب عمالة إقليم الصحراء الإسبانية ، لكن بعد ثلاث أشهر من هذا المرسوم، المغرب وفي إطار استكمال سيادته الترابية استطاع استرجاع طرفاية بمقتضى ما يعرف باتفاقية “سانتري” في أبريل 1958، عشر سنوات بعد ذلك استرجع المغرب سيدي إيفني في 4 يناير 1969 بمقتضى اتفاقية فاس، استمر هذا المسلسل التفاوضي السلمي لاستكمال الوحدة الترابية بنفس الروح والمنهجية، ففي 16 أكتوبر 1975 عندما أعلنت محكمة العدل الدولية عن رأييها الاستشاري بوجود روابط البيعة بين قبائل الصحراء والمملكة المغربية، بادر الملك الراحل الحسن الثاني في نفس اليوم وفي توظيف ذكي  للأحداث إلى الإعلان من أكادير على تنظيم المسيرة الخضراء محددا نقطة انطلاقها من مدينة طرفاية لما تحمله هذه المدينة من دلالات عميقة في عملية استرجاع أقاليمنا الصحراوية، وبالفعل انطلقت المسيرة في 6 نونبر 1975، مجلس الأمم وخوفا من إنزلاق الوضع في المنطقة، أصدر قراره رقم 08.30 يدعو فيه المغرب وإسبانيا إلى إجراء مفاوضات مباشرة بينهما، وبالفعل جرت هذه المفاوضات وأدت إلى توقيع اتفاقية مدريد في 14 نونبر 1975 بين إسبانيا والمغرب وموريتانيا و بموجب هذه الاتفاقية تم إنهاء الاحتلال الإسباني للأقاليم الجنوبية، ومعلوم أن البرلمان الإسباني وافق على هذه الاتفاقية بعد خمسة أيام فقط من توقيعها، وعلى المرسوم الملكي الذي أذن للحكومة الإسبانية بالتخلي عن أقاليم الصحراء متضمنا فقرة مهمة تؤكد على أن الصحراء الغربية لم تكن في يوم من الأيام جزء من التراب الإسباني. هذه المرحلة تعتبر  في نظر المتتبعين للصراع في المنطقة مفصلية بكل امتياز، إذ ستكشف عن تورط الجارة الشقيقة الجزائر مباشرة في قضية الصحراء المغربية مدشنة بذلك سلسلة من المناورات لازالت مستمرة إلى اليوم، فبمجرد إنزال العلم الإسباني بالعيون في 28 فبراير 1976 بحضور الجنيرال الإسباني “سان لازار” وبمشاركة مستشار الملك آنذاك المرحوم أحمد بنسودة، أعلنت جبهة البوليساريو في نفس اليوم عن تأسيس الجمهورية الصحراوية الوهمية، الجزائر كانت أول دولة تعترف بالكيان المصطنع، لم يقف الأمر عن هذا الحد فعندما وقع المغرب مع موريتانيا اتفاقية تقسيم الصحراء في أبريل 1976، تم تسليح عناصر جبهة البوليساريو والدفع بهم في يونيو من نفس السنة لتنفيذ هجوم عسكري عنيف على العاصمة نواكشوط، قتل خلال هذا الهجوم  قائد الجبهة مصطفى السيد، جوابا على هذه العملية الرباط سارعت إلى توقيع معاهدة الدفاع المشترك مع الجمهورية الموريتانية، بعد سنتين حصل طارئ جديد غير مجرى الأحداث في المنطقة، نقصد بذلك الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس الموريتاني المختار ولد داداه وصعود مصطفى بن محمد بن السالك رئيس للجمهورية، هذا الأخير وافق سنة 1979 على توقيع اتفاقية مع البوليساريو للانسحاب من إقليم واد الذهب، أربعة أيام على هذا المتغير المفاجئ في التعاطي الموريتاني مع القضية، الملك الحسن الثاني يأمر القوات المسلحة الملكية بدخول إقليم واد الذهب، تحقق ذلك بعد معركة شرسة “ببئر أنزران” تلاها مبايعة شيوخ القبائل للملك الحسن الثاني بالرباط.

بعد إحساس من وقفوا وراء تأسيس جبهة البوليساريو و تسليحها وإيواء قياداتها و تأطير جنودها، بعدم قدرتهم على فرض متغيرات عسكرية ميدانية تكون منطلقا للابتزاز والتفاوض والضغط، غيروا مجرى المعارك بالتوجه إلى منظمة الوحدة الإفريقية، ففي يوليوز 1976 أثيرت لأول مرة قضية الصحراء المغربية في مؤتمر القمة الإفريقي الثالث عشر المنعقد بجزيرة “موريس”، هذا المؤتمر رفض الاعتراف بالبوليساريو كحركة تحرير، في المؤتمر الخامس عشر المنعقد بالخرطوم تأسست لجنة الحكماء مهمتها البحث عن طرق سلمية لحل النزاع، في سنة 1980 المغرب يتقدم رسميا بطلب لمنظمة الوحدة الإفريقية يحثها على عدم قبول عضوية الجمهورية التي لا تتواجد إلا على الورق ولا تتوفر على مقومات دولة، زد على هذا تذكير المملكة المغربية بالمقتضى القانوني المتمثل في المادة 72 من ميثاق المنظمة آنذاك و الذي يشترط صراحة على أنه لا يمكن الفصل في أي مسألة متعلقة بهذا الميثاق إلا بموافقة ثلثي أعضاء المؤتمر المشكل من رؤساء الدول والحكومات، في الدورة 38 لمؤتمر وزراء الخارجية للمنظمة الإفريقية المنعقد بأديس أبابا، 19 دولة إفريقية تنسحب احتجاجا على الأمين العام للمنظمة الذي حاول إقحام الجمهورية الوهمية في حظيرتها دون سند قانوني، في سنة 1984 المغرب يقرر الانسحاب حفاظا على وحدة  هذه المنظمة والذي يعتبر من المؤسسين لها مع جيل الزعماء والقادة أمثال الملك محمد الخامس والرئيس جمال عبد الناصر والزعيم نكروما وأخرون.

في هذه الفترة أحس المغرب بأن القضية الوطنية قد تدخل مرحلة تدويل تجعل من المنطقة ساحة للمواجهة بين القوى العظمى، لاسيما أن الحرب الباردة كانت في تلك الحقبة هي السمة البارزة في تدبير تعقيدات الصراعات الكونية، من هنا بادر المغرب خلال الدورة 38 للجمعية العامة للأمم المتحدة في شتنبر 1983 باقتراح تنظيم الاستفتاء وقبول النتائج، وبذلك سحب المغرب البساط من تحت أقدام الدول المهيمنة آنذاك على منظمة الوحدة الإفريقية، والتي كان أغلبها يدور في فلك الجزائر، هذه الخطة الذكية للمملكة المغربية كان من نتائجها القوية هو جعل ملف الصحراء المغربية منحصرا في تدبيره على الأمم المتحدة دون غيرها، مع قبول المغرب لكل الآليات التي تحافظ على حقه المشروع في ضمان وحدته الترابية.

وتجاوزا للتفاصيل المرتبطة بقبول المغرب سنة 1988 خطة السلام المقترحة من قبيل الأمين العام للأمم المتحدة ثم مصادقة مجلس الأمن على القرار 690 بتشكيل بعثة أممية لتنظيم الإستفتاء، ثم موافقة مجلس الأمن في غشت 1991 على خطة التسوية التي تضمنت ثلاث نقط هي :  تشكيل لجنة لتحديد هوية الناخبين، الاتفاق على وفق إطلاق النار، ثم انتشار مراقبين أمميين مهمتهم الوحيدة هي مراقبة وقف إطلاق النار، بعد ذلك تبين إستحالة   الإستمرار في عملية تحديد الهوية نظرا للخلاف الجوهري الواقع حول من له الحق في التصويت، هذا الإشكال كان فرصة جديدة أظهر فيها أعضاء جبهة البوليساريو أنهم لا يملكون سلطة القرار  بالرغم من مجهودات المنتظم الدولي وجزء من القوى الفاعلة دوليا، هذه الأخيرة أصبحت تقتنع يوما بعد يوم باستحالة تنظيم الاستفتاء، في هذه الفترة بالضبط ظهرت الوصاية المطلقة التي تمارسها الجزائر على جبهة البوليساريو بحيث تحولت من مساند إلى طرف أساسي في الصراع، حجتنا في ذلك المذكرة التي بعثها سنة 2001 الرئيس الجزائري بوتفليقة إلى كل من كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الخاص جيمس بيكر، حول رفض الجزائر لخيارات الإتفاق الإطار، الأمور لم تقف عند هذا الحد ، ففي سنة 2002 الرئيس بوتفليقة يزور مخيمات تندوف في الذكرى 26 لتأسيس الجمهورية الوهمية، وهي بالمناسبة أول زيارة لرئيس جزائري للمخيمات، جواب المغرب هو الزيارة الملكية للأقاليم الصحراوية رفقة أعضاء الحكومة آنذاك، بعدها أي في أبريل 2004 المغرب يبعث بمذكرة للأمين العام للأمم المتحدة يعلن فيها أن فكرة الاستفتاء لتقرير المصير أصبحت متجاوزة، في نفس السنة بيكر يقدم استقالته وينسحب نهائيا من ملف كمبعوث خاص للأمين العام للمنتظم الدولي.

  • بين بان كيمون وكرستوفر روس: خيوط لعبة معقدة انكشفت

في سنة 2007 مجلس الأمم يصدر اللائحة 17.54 يدعو فيها الطرفين إلى الشروع في مفاوضات بدون شروط مسبقة، بعدها تم تعيين الأمريكي الديمقراطي كريستفور روس هذا الأخير يعرف المنطقة جيدا كديبلوماسي أمريكي سابق بالإضافة إلى تمكنه من اللغة العربية كتابة ونطقا، مبعوثا شخصيا للأمين العام للأمم المتحدة خلافا للهولندي  بيتر فان ويلسون، جولات مفاوضات عديدة تمت مابين 2009 و2011، عند زيارته للمنطقة، روس حاول تغيير المنهجية المعتادة في التعامل مع الملف، متأثرا بالمقاربة الأيدولوجية التي يتبناها تيار داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي و التي ترتكز في مرجعياتها الكبرى على رؤية ضيقة لمفهوم حقوق الإنسان، بالفعل اقترح روس على الأمين العام للمنتظم الأممي توسيع صلاحية المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان، المغرب رفض المقترح متشبتا بالأليات المتفق عليها بين الطرفين تحت إشراف الأمم المتحدة ، هي إذن محاولة أخرى  للأيادي الخفية التي تسعى كلما حقق المغرب انتصارا ميدانيا أو ديبلوماسيا إلى البحث عن جبهة مواجهة جديدة  مع المملكة انطلاقا من توظيف سيئ لنظرية الإنهاك التدريجي، استمرارا على هذا المنحى وبضغط من لوبيات أمريكية معروفة بدفاعها عن ما يسمى “بالشعب الصحراوي”، الأمين العام للمنتظم الدولي يسقط في فخ المحظور عندما برمج زيارة للمنطقة في مارس 2016 دون الأخذ بعين الإعتبار موقف الطرف الأساسي أي المملكة المغربية التي اعتبرت أن الوقت غير مناسب لهذه الزيارة، بإلحاحه على القيام بزيارة فقط للجزائر ولمخيمات تندوف وتصريحه بأن المغرب بلد احتلال تكون خيوط اللعبة قد انكشفت، جواب المغرب كان هو خروج ملايين من المغاربة في مسيرة ضخمة بالدار البيضاء وأخرى في 13 مارس من نفس السنة بمدينة العيون ضمت آلاف الصحراويون الوحدويون.

تجب الإشارة هنا إلى أن ملف القضية الوطنية تعاقب على تدبيره خمسة أمناء عامون للأمم المتحدة، لأول مرة أمين عام يخرج عن نطاق التعامل المتعارف عليه والمتضمن في ميثاق الأمم المتحدة “لسان فرانسيسكو” والذي يعد من ثوابت المنظمة الأممية.

ما وقع في الكركارات مؤخرا دفعنا إلى القيام  بقراءة ولو سريعة لمسار طويل سمته الرئيسة هو أن المحاور المرئي أي الجبهة تمارس لعبة لا تتحكم في خيوطها ولا في صياغة مضامينها، ولا في إعطاء الرأي حول نجاعتها، تنفذ بشكل حرفي رؤية تستمد جذورها من خطاطة تنتمي لمرحلة الحرب الباردة التي لم تعد صالحة لتقديم أجوبة لإشكالات مطروحة في عالم يتسم اليوم بالغموض وعدم الاستقرار مع بروز دول ومناطق تعرف صعوبات سياسية ومؤسساتية تؤدي غالبا إلى هشاشة أمنية تنعكس على أوضاع مجموعة من المناطق.

كم من فرصة ضاعت لغياب سلطة القرار لدى جبهة البوليساريو، يكفي الوقوف عند بعض هذه الفرص،  مثل لقاء وفد من الجبهة مع المرحوم الحسن الثاني بمراكش سنة 1990، وبعدها مباشرة مع الملك محمد السادس يوم كان وليا العهد، وفي ذلك دلالة على أن الملك الراحل كان مستوعبا لتحديات المستقبل، محطات أخرى ضاعت مثل لقاء الطائف بالسعودية الذي إستمر  أياما طويلة بحضور قياديين صحراويين من الطرفين ، ومعلوم أن لقاء الطائف الذي تم في يوليوز 1988 قد عرف حضور وفد يمثل آنذاك جبهة البوليساريو، و الذي كان يتكون من، عبد القادر الطالب عمر رئيسا للوفد كانت له صفة وزير الداخلية للجبهة، حاليا سفير لها بالجزائر، نور الدين بلالي إدريسي كانت له صفة كاتب عام لوزارة الداخلية الجبهة، عاد إلى المغرب وهو من الأطر الصحراوية التي تحضى بإحترام كبير و بالمناسبة هو الذي أمدنا بهذه اللائحة، أمهمد ولد زيو رئيس سابق للمجلس الوطني للبوليساريو، بابا ولد حسن أحد الشيوخ، عضو سابق بالكورتيس الإسباني، أزروك ولد الجماني أحد الشيوخ،  كان نائبا لما يسمى والي المنطقة، ولينا ولد الشيخ لكبير كان ممثلا للجبهة بلاس بالماس، عاد إلى المغرب، عبيد لوشاعة، ممثل سابق للجبهة بأنغولا، توفي في السنوات الأخيرة، أعلي محمود، حاليا سفير للجبهة ببانما، أما الوفد القادم من المغرب فكان يتكون من، خطري الجماني رئيس الجمعية الصحراوية سابقا، لارباس ماء العينين رئيس محكمة الاستئناف بالعيون آنذاك، الدكتور محمد الشيخ بيد الله برلماني، تقي الله ماء العينين برلماني، أحمد سالك بيروك، أحمد البشير، كان عضوا في الكورتيس الإسباني سابقا، التامك محمد مبارك، عم محمد صالح التامك، المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج حاليا، أبريك الزروالي برلماني، أب خالد الزروالي الوالي مدير الهجرة ومراقبة الحدود بوزارة الداخلية حاليا، محمد سالم خطري الجماني . رافق الوفد المغربي مترأسا الجلسة الافتتاحية ومغادرا بعد ذلك الاجتماعات، الأمير مولاي الحسن بن إدريس، ابن عم الملك الحسن الثاني برفقة حفيظ بنهاشم الذي كان مديرا للشؤون العامة بوزارة الداخلية، والذي عايش لحظات حاسمة في ملف القضية الوطنية، ثم فيصل المزياني كان إطارا بوزارة الداخلية ثم عاملا على إقليم بوجذور، ومعلوم أن هذا اللقاء تم  بمباركة الملك فهد الذي كان يتابع هذا الحوار بين أبناء الصحراء عن طريق مستشاره لشمال إفريقيا، الشيخ علي بن مسلم، قناة الثقة آنذاك بين الملك الحسن الثاني و الملك فهد، والشيخ بن مسلم كانت له علاقات متعددة بالمغرب من بينها الصداقة المتميزة التي كانت تجمعه بالأستاذ سي محمد الشرقاوي، القيادي البازر في حزب الشورى والاستقلال والذي شارك فاعلا في مفاوضات “إيكس ليبان”، تقلد إبان الاستقلال مناصب وزارية مختلفة منها وزيرا للخارجية، حيث ترأس الوفد المغربي في سلسلة مفاوضات مع الجزائر بعد حرب الرمال سنة 1963، عندما كان يرأس الوفد الجزائري عبد العزيز بوتفليقة. تفاؤل الحسن الثاني من لقاء الطائف عبر عنه في خطاب بمناسبة تدشين عمالة بن مسيك سيدي عثمان عندما قال “قضية الصحراء انتهت، لا غالب ولا مغلوب”، بعد فشل الحوار اقتنعت جل الأوساط المتابعة للقضية الوطنية، بأن الخلاف والصراع ليس مع شباب تمرد وانفصل، لكن يال الأسف مع دولة شقيقة.


وزير سابق

عضو مركز الدراسات الديبلوماسية والاستراتيجية بباريس

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock