مصطفى البركاني، حين تغنى الرݣادة بوجدان الغربة، ويصير الصوت حصنا
⬛ جمال اشبابي – باريز ⬛
في قلب الشمال الشرقي للمغرب، حيث تنبض الأرض بإيقاعات الرݣادة والعلاوي وتتصاعد الزغاريد مع كل دقة طبل، خرج صوت لا يشبه غيره. صوته يحمل صدى جبال بني يزناسن، ونبرته تفيض بعشق التراث والناس. إنه مصطفى البركاني، فنان لم يركب موجة الشهرة الجاهزة، بل صنع مركبه بيديه، شق به طريقه وسط بحر الفن الشعبي، حتى صار من علامات فن الرݣادة الحديثة.
ولد مصطفى البركاني بين أزقة مدينة بركان، حيث لا مكان للصمت، بل تنهض الحارات كل صباح على دندنة الأعراس وهمسات المواويل. كان طفلا يسرقه الإيقاع، يؤنسه “الݣلال” وتدهشه “القصبة”، فكان لا يمر عرس دون أن يتسلل إلى قلب الفرقة، يحفظ الأغاني والحركات، ويتنفس الفن كأنه جزء منه.
قبل أن يعرفه الجمهور كمغن، عرفته الملاعب كلاعب كرة قدم واعد. راوده حلم التألق على المستطيل الأخضر، وكان سريعا، شغوفا، يحمل الروح القتالية نفسها التي تميز غناءه اليوم. لكنّ الأقدار اختارت له مسارا آخر، فانطفأت شرارة الكرة لتشتعل جذوة الفن، واكتشف أن صوته هو ملعبه الحقيقي، وجمهوره يهتف له من القلب.
وإن سألت من يعرف مصطفى، سيقول لك فورا: “راجل وطني حتى النخاع”. لا يمر حفل دون أن يغني للمغرب، للعلم، وللقضية الوطنية التي يؤمن بها بلا مساومة. يذوب حبا في تراب وطنه، ويحمل هم الهوية معه حيثما ارتحل. سواء في مهرجان شعبي أو حفل في المهجر، يبقى مصطفى صوتا من أصوات المغرب العميق.
لا يلبس صوته بالألوان، ولا بالمحسنات الإلكترونية، بل يختار الصدق خامة لغنائه. هو ابن الحومة، ابن بركان، ابن الشرق المنسي، ابن الأم التي ربت على البساطة والنية. أغانيه ليست فقط موسيقى تسمع، بل طاقة تحس، تشبه الموال الشعبي في صدقه، وتضرب في الذاكرة كما تضرب طبلة الݣلال في عرس قروي.
ومؤخرا، أطلق مصطفى البركاني أغنيته المؤثرة “وحدي نسوفري”، التي سرعان ما لامست وجدان الجالية والمستمع وكل من تذوق مرارة الغربة وخيانة القريب. بأسلوب شعبي خالص ونبرة صدق لا تزيف، يبوح البركاني في أحد مقاطعها بما يشبه البوح العاري:
“وحدي نسوفري، وحدي نباطايي،
وزهري تاني دارها، وعداني وخلاني مغبون،
الدنيا وها الدنيا وما درتي فيا،
العشق داني، الخدع كواني، وليت كالمجنون…”
مقطع صادق، تتقاطع فيه لوعة الغربة مع وجع الخذلان، وتتفجر فيه مشاعر البركاني كأنها تخرج من عمق جرح مفتوح، لا يداويه سوى حضن الوطن. هذا العمل الفني لم يكن مجرد أغنية، بل كان صرخة داخلية موجهة لكل من جرب الغربة أو جرح بالثقة.
ورغم الشهرة الواسعة التي بات يحظى بها في المغرب والمهجر، ظل البركاني وفيا لجمهوره البسيط، قريبا من الناس، يغني بلسانهم، ويتحدث بلغتهم، ويكتب أحاسيسهم. لم ينس جذوره، بل جعل منها نواة مشروعه الفني، منطلقا نحو التجديد دون أن يقطع الحبل السري مع التراث.
هكذا هو مصطفى البركاني… لا يحتاج إلى زخرفة لغوية، بل إلى صدق بسيط، يضعه في صوته قبل أن يضعه في اللحن. صوته هو صوت البركاني البسيط، والغريب الحالم، والعاشق المتألم. هو فنان يغني بالحرقة، ويصمت حين تصير الكلمات بلا معنى.
يقول من يعرفه إنه متواضع، صادق، يحب عمله لحد العشق. “ما يغنيش غير باش يربح… يغني باش يعيش”، هكذا يصفه أحد أصدقائه المقربين.
ومع كل هذا الزخم، لا يزال مصطفى البركاني في نظر جمهوره ابن الدار، ذاك الشاب الذي كبر معهم، وغنى لهم، ولا يزال يحمل صوته في أزقة بركان، في الأعراس، وفي الغربة وفي قلوب كل من سمعه يردد:
“ماني مهني
ماني مهني
متسولوش علي
خليوني.”
