مدارات

باحث جزائري يسائل ما بعد وباء فيروس كورونا: “بداية النهايات”

نظَر الفيلسوف الإنجليزي “توماس هوبز” للدولة على أنها تنين أي كحيوان أسطوري مقدس وبأن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان.

فهل يكون إنسان القرن الحادي والعشرين إنسانا هوبزيا؟ أي مغلولا بذئبية سياسية وأمنية وثقافية وحضارية لا حدود لضراوتها، هذا السؤال الكبير تبلور بحدة في مستهل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين انطلاقا من فيروس كورونا وتبعياته في هندسة نظام دولي جديد بعدما أظهر النظام الليبرالي الذي كان مستترا خلف النظام الديمقراطي عجزه في إيجاد حلول للإنسانية دون تميز باعتبارها لا تتجزأ، وبالتالي، فإن هذا الوباء ”فيروس كورونا” قد عرى حقيقة النظام الدولي وجفائه في تحقيق الأمن القومي للإنسانية.

فما هي التمثلات المستقبلية للعالم ما بعد فيروس كورونا؟

1- الفوضى الخلاقة:

أثبت مفهوم “الفوضى الخلاقة” فعاليته في الحياة السياسية الدولية، بحيث أن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش (الابن) بنى أفكاره في السياسة الخارجية على كتاب “قضية الديمقراطية” كما صرح به شخصيا، وهذا الكتاب يعود إلى مؤلفه “ناتان شرانسكي” وهو منشق سوفياتي سابقا، ووزير يهود الشتات وقد استقال من حكومة “الوزير الأول الإسرائيلي أرييل شارون” عام 2005 احتجاجا على قرار الخروج من غزة.

وفي ملخص هذا الكتاب الذي حذر بقوة من فكرة التعايش مع الأنظمة الديكتاتورية، وأكد على أن المطلوب من المجتمع الدولي التدخل من أجل إقامة المؤسسات الديمقراطية أولا وترسيخ مبادئ الحرية تم إقامة الانتخابات تاليا، وافترض أن العرب والمسلمين ليسوا مهيئين للديمقراطية، فلذا يستوجب نقلهم إلى الديمقراطية وهي مجتمعات راكدة سياسيا حسب رأيه.

وتأسست نظرية الفوضى الخلاقة نظريا على ثنائية التفكيك والتركيب أي تفكيك كل المواقع والجغرافيا، التي من المفترض أنها تشكل مصادر تهديد لأمن ومصالح أمريكا في العالم مبنية على فلسفة وجود خطر داهم من عدو مجهول.

وقبل مؤلف كتاب القضية الديمقراطية كان الفيلسوف الأمريكي ذو الأصل الياباني “فرانسيس فوكو ياما” الذي ألف كتابه المثير للجدل المعنون ب “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” الذي قسم فيه العالم إلى عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب، وهو العالم الذي لم يلتحق بالأنموذج الديمقراطي الأمريكي، عالم آخر ما بعد التاريخي الديمقراطي الليبرالي الآمن على الطريقة الأمريكية ويرى فوكو ياما أن من أهم العوامل التي حالت دون تطبيق الديمقراطية هي القومية والدين والبنية الاجتماعية.

أما الكتاب الآخر المثير للجدل، هو كتاب “صموئيل هنتنجتون” المعنون بصراع الحضارات معتبرا أن الانقسامات والنزاعات في العالم سيكون مصدرها حضاريا وثقافيا، ويقسم الحضارة العالمية المتبقية إلى 8 وهي: الغربية، الإسلامية، الكونفوشيوسية، اليابانية، الهندوسية، السلافية، اللاتينية والإفريقية؛ واعتبر أن النزاعات الدولية سوف تحدث بين الأمم التي وقد لها حضارات مختلفة، ذلك أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل.

إن مفهمة نظرية الفوضى الخلاقة خالفت مبادئ الثورة الفرنسية التقليدية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة، فأوجدوا من خلالها ما يعرف بالحرية الفوضوية التي يعتقدون فيها أن الإنسان الذي أمضى مرحلة تاريخية طويلة من القمع والقهر هو بحاجة ماسة إلى حرية منفلتة تخرج إلى أرض الواقع كل إفرازات وسموم المجتمع المدفونة بواسطة القمع إلى أن يستقر الحال به حتى يجد أن الاستقرار والأمن والنزاهة واحترام القانون هي الخيارات الأفضل لديمومة تعايش سلمي وبناء مستقبل أفضل.

2_الإنســـانية:

وهي مفردة مستعملة كمصطلح بأكثر من معنى وهي فكرة نقدية ظهرت في القرن الرابع عشر في إيطاليا، ناهضت آراء الكنيسة حول دور الإنسان في الحياة الدنيوية وممارسة السلطة السياسية بعكس الكنيسة التي تمجد حياة الآخرة وتحط من قيمة الدنيا، وقد أعلت هذه الحركة من قدر الإنسان الفرد وشأنه ومجدته.

كانت النزعة الإنسانية في الأصل تشكل إعادة اصطفاف علماني يؤكد على أهمية الإنسان كمركز كوني، مخالفا مركزية الله والهيمنة الإنسانية على الطبيعة، وحتى الشخص ما بعد الإنساني البديل هو الذي يعمل خارج مقاييس الوجود الإنساني.

إن إفرازات وباء كورونا على العالم سوف تلقي بظلالها على المشهد العالمي، وبالتالي سيبقى تاريخ ظهور الوباء هو معلم لبداية ظهور قوى جديدة مهندسة للنظام الدولي الجديد، لأن هذا الوباء قد فضح النظام الليبرالي الموحش وزيف الحضارة والرفاهية في تبنيه للقضايا الإنسانية بالرغم أنه كان متخفيا بالنظام الديمقراطي، فعند ظهور الأزمة لم نسمع عن أي تضامن دولي للحد من هذا الوباء بما فيهم من منظمات الأمم المتحدة، وهو ما ترجمه غلق الفضاءات الإقليمية الوطنية دون أي اعتبار للجانب الإنساني وغياب روح المشاركة المتضامنة مع مخاطر ومآلات هذا الوباء الذي لا يزال يحصد الأرواح في عدد معتبر من الدول الموبوءة.

إن مشاهد رؤساء الدول الأوروبية وهم يترجون في مواطنيهم على ضرورة احترام مفاهيم المدنية والمواطنة بوضع أنفسهم تلقائيا في الحجر الصحي بالبيت .هذه المشاهد والاخبار المتتالية المصدومة والمعقدة تدعوا إلى المساءلة والمحاورة التي كان يعتقد الفيلسوف الفرنسي “ميشال فوكو” أنها كانت من الماضي وهي أن المجتمعات الأوروبية انتقلت من المجتمعات التأديبية إلى المجتمعات المراقبة، فكان يرى أن المجتمع الانضباطي يتم فيه بناء التحكم الاجتماعي عن طريق شبكة متشبعة من الأجهزة التي تنتج وتنظم العادات و التقاليد و الممارسات المنتجة و هذا حتى يسمح بظهور منطق داخلي يناسب العقل التأديبي (معاقبة الممارسات المنحرفة وترويج للممارسات الصائبة ، فالمجتمع التأديبي كان في بداية تراكم الرأسمال وبداية الحداثة)، أما مجتمع المراقبة فكان مع آليات التحكم الديمقراطي وهي منتشرة في عقل وجسد المواطن وهذا في نهاية الحداثة.

المجتمع التأديبي / العلاقة بين السلطة  والفرد علاقة سكونية  بحيث الانتشار التأديبي للسلطة يوازن مقاومة الفرد، وبالتالي ومن أعمال فوكو نفسه أين نضع المجتمع الأوروبي :هل نضعه في المجتمع التأديبي أم المجتمع المراقبة ؟من خلال تفاعله مع أزمة وباء كورونا، وأين نضع المجتمع الصيني ، أهو في المجتمع التأديبي أم المراقبة؟ فقد لقى النظام الديمقراطي بالمعيار المركزية  الغربية الليبرالية حتفه  أمام عولمة الوباء ، وقد نجحت الصين بفضل انضباطها النابع من سلوكيات أجهزة الدولة في تجاوز محنة كورونا ، و أعطت درسا للعالم لمفهوم التضامن الداخلي وحتى الدولي.

أما عن النظرية التكاملية التي كثيرا ما تغنى بها الاتحاد الأوروبي فقد سقطت في يد الوباء، وحتى اتفاقية شنقن تكون قد لفظت أنفاسها أمام الغلق الذي مارسته دول الا تحاد والانطواء حول أنفسهم وأوطانهم ونهاية ما ذكره لينين “ديمقراطية حقائب الأموال”، فالمركزية الأوروبية للمعايير الديمقراطية الليبرالية تكون قد فقدت هيمنتها أمام صعود تقاطبات جديدة في العالم والمتمثلة في التنين الصيني، بالرغم أن وباء كورونا، كان السبب المباشر لهذا التقاطب إلا أنه سبقته بعض الارهاصات مثل  بريكسيت (brexit )، مشكلة الهجرة غير الشرعية، صعود الأنظمة اليمينية والشعبوية، تقزيم دور الاتحاد الأوروبي أمام الولايات المتحدة الأمريكية في السياسة الخارجية وهذا بالتخندق وراء أمريكا.

وفي الأخيــــر……

أعتقد أن بداية العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين هي بداية ترسيم تكتلات جديدة في العالم وفق التقاطبات التي تفرزها أزمة كورونا وتكون للصين مرجعية جديدة في القطب الموازن للحد من هيمنة الليبرالية الجديدة، فالفوضى الخلاقة التي نادت بها كونداليزا رايس مستشارة الرئيس الأمريكي السابق ج. بوش وهي خلق صدمة في المجتمعات الراكدة لكي تتفكك ويعاد تركيبها، أعتقد أن السحر انقلب على الساحر هذه المرة، لأن المجتمعات الآن تسير نحو ما يعرف بديمقراطية الحاسوب أو الأنترنيت والرقمنة.

فهل يستقر العالم وفق الثنائية القطبية أمريكا_ الصين؟ وكيف يكون الاصطفاف والتكتلات الدولية يا ترى؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock