رؤى منطقيةمدارات

المتواضعون في عظمتهم، لا تنقل جماهير المناضلين أخبارهم…

غادرنا في صمت، قبل ثلاثة أيام، أحد قادة اليسار المغربي الجديد، المناضل محمد بودلال.. من مؤسسي حركة 23 مارس، ثم بعدها منظمة العمل الديمقراطي الشعبي قبل أن يتفرق الرفاق في أرض الله الواسعة وفي زحام الضجيج الذي أجهض حلما وفكرة ظلت تسكن فكر وقلب الفقيد، ما جعله ينأى بجسده وبحلمه، ويتوارى بعيدا لينزوي وحيدا رفقة فكرته الأصيلة و”العنيدة” والأكيدة، على الأقل، بالنسبة إليه وفكرته…

هذه عودة إلى محمد بودلال المناضل والإنسان، اختزلها الصحافي يونس دافقير بإتقان معهود مرفوق برسائله المعتادة، مثلما عرفه رفاقه في النضال الديمقراطي الشعبي….

“رفيقي وأستاذي محمد بودلال:

ارقد في سلام يا ابن وجدة العظيم.

أنا حزين جدا هذا المساء. علمت برحيلك وأنت تقضي ليلتك الثالثة أو الرابعة، في مثواك، مثوانا الأخير.

ربما رأيتك آخر مرة سنة 2002، وربما كان آخر اجتماع شاركنا فيه معا هو اللجنة السياسية المتفرعة عن اللجنة التحضيرية لآخر مؤتمر عقدته منظمة العمل الديمقراطي الشعبي قبل انتحارها في باقي شتات اليسار.

في 2002 كنت قد رحلت عن الحزب. ذاك الحزب الذي أعطيته حياتك ووجودك، لم يقنعك هذا المسار الوحدوي الانتحاري، ووقفت ضد حل منظمة العمل.

كنت دائما مختلفا وصادقا ومصيبا في تحليلاتك وتقديراتك.

هل أكشف لك سرا، هل يسمح القبر بأن يتسرب إليك صوتي: أنت واحد من الكبار الذين علموني أن أحلل، وأن أربط السياسة بالفكر

وكنت محظوظا بأن أشتغل معك وأجالسك.

أنا أراك الآن بوضوح تام في قاعة الاجتماعات بالمقر المركزي الجديد لمنظمة العمل قبل 20 سنة، تختار دائما الانزواء في ركن بعيد، وكأنك تأخذ مسافة، أو تراقب الوضع في شموليته عن بعد.

لا يستطيع الجميع الرؤية في بعد شمولي، وذلك كان تميزك.

أجل أراك، بوضوح: بجانبك حميد زلماط، ذاك الشاب اللامع في تدخلاته، لم تفترقا ابدا في ذلك الزمن، حيث يجلس بودلال يجلس زلماط، وأين يوجد زلماط يوجد بودلال.

في العشرينات من عمري أعجبني انسجامكما وهدوءكما، وكنت اراقبكما خلسة باستمرار، لديكما شيء يهمني: تجديد الفكر.

أراك رفيقي، بتلك البذلة البسيطة، والوجه الذي تختلط فيه الطفولة بالصرامة، بموسطاشك الشرقي المميز، وذاك الحذاء البسيط …

حلق الرفاق موسطاشاتهم، لكنك لم تفعل. وحتى حين صلعت، بقي الموسطاش في مكانه.

هو ارتباط بالشرق من رجل الوفاء، وكما لو أنك كنت تريد أن تقول أيضا: لايمكن في التغيير، ان يتم التنازل عن كل شيء، ولو كان موسطاشا.

**********

وكما كنت ضد وحدة يسارية انتحارية، كنت أيضا ضد أن يختزل يسارنا في أجوبة سياسية ودستورية وانتخابية فقط. لم يكن ما يشغلك هو هل الأولوية للدستور أو الانتخابات، المشاركة أو المقاطعة … كنت تقول إن الأزمة أعمق، تحتاج جوابا فكريا وتحتاج لتجديد الاشتراكية.

وكنت تؤمن بأن الصراع فكري، ويجب أن نتملك أدواته ونعود إلى ما كنا متفوقين فيه : الفكر.

نم في سلام يا رفيقي، لقد تحققت كل توقعاتك:

1_ انتهى المشروع الوحدوي اليساري إلى التشرذم، خسرنا منظمة العمل، ولم نربح الحزب اليساري الكبير. والباقي تفاصيل مأساوية وكاريكاتيرية لا داعي لوضع ملحها على الجرح.

2_ وانهزم اليسار أمام المخزن لأنه دخل صفقات السياسة وصراعاتها بدون وضوح ومتانة فكريين، جدد المخزن خمس قرون من تاريخه، ولم يجدد اليسار نصف قرن فقط من تجربته.

3_ لما انفجرت “انتفاضة الجماهير ” أخيرا من أجل الديمقراطية، وجاءت اللحظة التي انتظرها اليساريون عقودا في المنافي والمعتقلات وتحت التعذيب، لم يكن اليسار حاضرا، كان ضعيفا منهكا، وبلا بوصلة أو مشروع فكري، ولذلك هزمته الأصولية الدينية هزيمة مذلة.

*******

نم يا رفيقي.

توقعاتك القاسية انهالت على رؤوسهم، “ما بقى ما يتشاف”، وحسنا فعلت حين تواريت عن الأنظار منذ انسحابك في 2002.

لم يفاجئني أني لم أسمع برحيلك الا في وقت لاحق، انا المتابع الجيد للأخبار. ولولا تدوينات بضع رفاق مازالوا على عهدك، ما علمت برحيلك انت المؤسس والقيادي والمنظر والصحفي …

البسطاء والمتواضعون في عظمتهم، لا تنقل جماهير المناضلين أخبارهم، الناس تحب النجوم والبهرجة.

وها أنا أعود لأراك من جديد. لما كنت رئيسنا في صحافة الحزب، في “الأنوار” التي أنقذت صوت الحزب بعد اغتيال “أنوال”، وفي “المنظمة” .

بقيت حريصا دائما على أن تكون رفيقا وليس رئيسا.

في تلك السنوات التسعينية كنت ما أزال طالبا، وكاتبا عاما لفصيل الطلبة الديمقراطيين. والمغرب يستعد للتناوب كتبت مرافعة مطولة ضد مشاركة اليسار في حكومة عبد الرحمان اليوسفي، عددت الأسباب الدستورية لذلك، وقد أبهرني أنك نشرتها في قرابة 12 حلقة كانت مقروءة على نطاق يساري واسع.

نم يا رفيقي.

ها انا أراك تنهي عملك وتسير مشيا إلى محطة القطار كي تلتحق ببيتك في سلا. وفي المقصورة تندس وسط أيها الناس. فيك رأيت المعنى الحقيقي للمثقف العضوي.

كنت متفرغا لانشغالك الفكري بتجديد اليسار، وكان رفاق آخرون منشغلين بالتقرب من أصحاب القرار. كان بعضهم يرقص فرحا حين يأتي ذلك الإتصال من الرجل المهم في القصر، وآخرين يثملون لمجرد موعد مع عبد السلام أحيزون “علي بابا” التلفون والمال يومها.

كانوا يصنعون رقيهم الطبقي، وبعضهم وسط وفي رحاب وخدمة عدونا الطبقي الرأسمالي، بينما كنت تكتب.هم يرتقون وأنت تكتب وتكتب وتناقش.

ولم يعد الصراع تحسمه الأفكار بل الولاءات للقادة المتنفذين طبقيا. ثم ظهر داخل القيادة توزيع جديد للعمل: فئة القادة الميسورين، وفئة البروليتاريا المناضلة.

وكنت من الفئة الثانية. وأنت تعلم جيدا وقد عشت ذلك، كم هو قاس ومؤلم يارفيقي، ان يرتبط خبرك وماءك وكهرباء بيتك بميزانية الرفاق.

اليساريون بارعون في إذلال بعضهم بعض باستعمال سلطة الرقي الطبقي، وبارعون أيضا في الاغتيالات الرمزية لرفاقهم.

وقد تأذيت وصبرت كثيرا، حتى لم يعد هناك بد من الرحيل.

كنت ابن الشرق الصادق، ولم تشرب الاعيب الرباطيين والبيضاويين.

********

نم رفيقي.

لو لم تكن بروليتاريا، لكان خبر رحيلك يملأ واجهات الاخبار الرفاقية. تحتاج لأن تكون من طبقة أعلى كي يبكيك ويرثيك القادة والجموع.

بورجوازيو وأعيان اليسار Hفسدوا أخلاق وذوق المناضلين.

ولم يعد مهما هل كنت معتقلا سابقا، أو منظرا أو قائدا لامعا، المهم ان تكون في موقع طبقي يسمح لك بالحصول على الموارد المادية والرمزية لإعادة توزيعها في صناعة شبكة الولاءات.

ولذلك يرحل القادة البروليتاريون أن يهتم بهم أحد.

تماما كما رحل عبد السلام المودن، ذلك الرفيق المنظر الذي أمضى 17 سنة في الاعتقال كي يموت بعد الإفراج غنه في ظروف قال لنا القادة يومها أنها غامضة.

ولأن عبد السلام كان مجرد بروليتاري يتقاضى أجره من الرفاق، لم يكن مهما أن نكون ملتزمين بالعهد الذي قطعنا له في حفل تأبينه: مركز عبد السلام المودن للدراسات، بنسعيد ايت ايدر قيادي تاريخي وهو الأجدر بأن يحدث مركزا باسمه.

والرفاق والمناضلون درجات يا رفيقي.

لكنك عندي كنت ومازال في أعلى الدرجات، يا واحد من أعظم الرجال الذين أنجبتهم وجدة.

نم يا رفيقي.”

ــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: صفحة يونس دافقير على فيسبوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock