مدارات

 رجاء ارحموا هذا الوطن

أثار حادث مداهمة مقهى بالدار البيضاء واعتقال عدد من الشبان بتهمة الإفطار العلني في رمضان، يوم الأربعاء 27 أبريل 2022، إشكالية حرية الاعتقاد وضرورة مواءمة فصول القانون الجنائي مع مواد الدستور والمواثيق والاتفاقيات الدولية التي تمت المصادقة عليها من طرف المغرب.

ذلك أن دستور 2011 ينص، في ديباجته، على أن “المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا .. جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة”. هذا التزام والتعهد من المغرب أمام كل من الشعب المغربي ودول العالم وهيأة الأمم المتحدة، يفرض على الحكومة الإسراع بإعداد مشروع القانون الجنائي الذي يترجم هذه التعهدات إلى نصوص قانونية دون تلكّإ حتى لا تضيع مزيدا من الفرص التاريخية على المغرب للدخول إلى نادي الدول الديمقراطية بقانون جنائي عصري ومتقدم يحظى بتنويه الدول مثلما حظيت به مدونة الأسرة.

فالمغرب أقر، عبر التعديلات الدستورية، أن المجتمع عرف تغيرا وتطورا مهمّين منذ 1962، تاريخ صياغة القانون الجنائي، إلى حين وضع دستور 2011.

وإذا كانت الدولة المغربية تواكب دستوريا تطور المجتمع وحركيته بإخضاع الدستور للتعديلات المتوالية (دستور 1962 تم تعديله سنوات 1972 و 1992 و 1996 بالإضافة إلى دستور 2011)، فإنها على مستوى القانون الجنائي ظلت متأخرة عن المواكبة ؛ الأمر الذي يخلق حالة توتر بين المجتمع وبين القانون الجنائي .ومن المفارقات أننا نجد الدولة المغربية تقر بالتغيير على مستوى الأسرة ، بحيث استجابت ، في مناسبتين ، لمطالب تعديل مدونة الأحوال الشخصية (تعديل 1993 ثم تعديل  2004 الذي أثمر مدونة الأسرة التي لقيت ترحيبا دوليا حينها) ، بينما أبقت على نفس القانون الجنائي منذ بداية الاستقلال.

ومن الفصول التي تخلق حالة من التوتر داخل المجتمع وتضع الدولة ومؤسساتها في حرج سياسي، حقوقي ودستوري، الفصل 222 الذي ينص على أن” كل من عُرف باعتناقه الدين الإسلامي، وتجاهر بالإفطار في نهار رمضان، في مكان عمومي، دون عُذر شرعي، يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من اثني عشر إلى مائة وعشرين درهما”. هذا الفصل، بالإضافة إلى أنه يشد المغرب إلى الفترة الاستعمارية (قانون وضعه ليوطي)، فإنه يتنافى مع الطبيعة المدنية للدولة، فضلا عن تعامله مع المجتمع المغربي ككتلة منسجمة عقائديا وجامدة ثقافيا، لا تسري عليها قوانين التاريخ والمجتمعات، أي أنه مجتمع يعيش خارج التاريخ. وهذا مناف للواقع. فجمود القوانين يعرضها للخرق كما يشجع على التحايل أو التمرد.

وحتى نكون منصفين، فإن حكومة البيجيدي أتيحت لها فرصة تعديل القانون الجنائي لكنها أضاعتها بسبب طبيعة المشروع الذي قدمه مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات في حكمة بنكيران، وما تضمنه من فصول تشرعن جرائم الشرف وتشجع عليها وذلك بتخفيض عقوبتها من الإعدام أو المؤبد إلى بعضة شهور سجنا. طبعا لم يكن منتظرا من حكومتي البيجيدي أن تقدما مشروعا متقدما يفي بما جاء في الدستور “بحماية منظومتي حقوق الإنسان والنهوض بهما والإسهام في تطويرهما، مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء”، طالما ظل الحزب يناهض منظومة حقوق الإنسان باسم الدين والخصوصية. أما الحكومة الحالية فلا عذر لها إذا أخلفت الموعد مع التاريخ ومع الشعب.

ذلك أن كل العوامل الداعمة للحكومة متوفرة لكي تقدم قانونا جنائيا يرقى بالشعب المغربي ويترجم مستوى تحضره ووعيه. وعلى رأس تلك العوامل:

أ ـ الإرادة الملكية التي تتبنى الحداثة وتحمل مشروعها المجتمعي وتسعى إلى تحقيقه عبر التفاعل البناء مع مطالب الحركة النسائية بتعديل مدونة الأحوال الشخصية ، فجاءت مدونة الأسرة مجسدة لذلك التفاعل، وكذا التجاوب مع المطالب المجمعية بوضع دستور متقدم يتبنى علانية منظومة حقوق الإنسان ، فضلا عن رفع التحفظات عن الاتفاقيات المتعلقة بالقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة ، وخاصة مقتضيات المادتين 9 و16 من الاتفاقية ، ثم الانضمام للبروتوكولات الاختيارية (البروتوكول الاختياري لاتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة)؛ الأمر الذي نوهت به هيئات دولية معتبرة إياه “خطوة رائدة بالنسبة لغالبية البلدان العربية بخصوص تكريس الالتزام بحقوق النساء” حسب التحالف الإقليمي ” مساواة دون تحفظ ”.

ب ـ الدستور، الذي هو أسمى قانون يعبر عن إرادة الشعب المغربي، يتبنى حقوق الإنسان في كونيتها وعدم قابليتها للتجزئ. بل إن الدستور ينص على ملاءمة التشريعات الوطنية مع مقتضياته.

ج ــ الاتفاقيات الدولية والقرارات الأممية ذات الصلة بحقوق الإنسان والحريات مثل القرار الأممي الذي وافق عليه المغرب خلال الدورة الخامسة والعشرين لمجلس حقوق الإنسان التي احتضنتها مدينة جنيف السويسرية في مارس 2014 ،والذي ينص “على حق كل فرد في حرية الفكر والوجدان والـدين أو المعتقـد، بما يشمل حريته في أن يكون أو لا يكون له دين أو معتقد أو في أن يعتنق دينا أو معتقـدا يختاره بنفسه، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعليم والممارسة والتعبد وإقامة الـشعائر، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة، بما في ذلك حقه في تغيير دينه أو معتقده”.

د ــ طبيعة الشعب المغربي ومستوى وعيه وتحضره. ذلك أن المغاربة شعب منفتح، متسامح، محب للحياة، ينفر من التطرف ويكره الانغلاق.

فهو الشعب الوحيد في المنطقة العربية الذي تعايش ويتعايش مع أهل الديانات التوحيدية ويحترم دُور عبادتها ولم يحدث أن تعرضت للهجوم أو التدنيس. بل لم يحدث أن هاجم الشعبُ المتخلفين عن الصلاة أو عنّف المفطرين في رمضان حتى فعلت “الأسلمة” فعلتها. إذ كانت الأمهات يطبخن الطعام لأبنائهن وأصدقائهم مكتفيات بالدعوة لهم بالهداية؛ كما كانت الأحياء متسامحة مع الشبان المفطرين دون تعنيف أو سباب.

من هنا، يكون على الحكومة حسن استثمار هذه العوامل في صياغة قانون جنائي عصري ومتقدم. أما التلكؤ أو تبرير ضعفها السياسي بكون الشعب المغربي غير مستعد لتقبل رفع التجريم عن الإفطار العلني في رمضان وعن الإجهاض وعن العلاقات الرضائية التي هي شائعة في كل الأوساط الاجتماعية ، فعليها أن تعلم أن هذا الشعب وافق على مدونة الأسرة وثمّن بنودها التي استغلها الإسلاميون للتحريض على مناهضتها دون جدوى ، خاصة تلك المتعلقة بولاية المرأة على نفسها في الزواج ، واقتسام الممتلكات الزوجية ، والتطليق للشقاق ؛ ودعّم كذلك قرار التطبيع مع إسرائيل متجاهلا الدعوات الخجولة من جميع الإسلاميين إلى الاحتجاج قصد إسقاطه . بل استقبل الوفود الإسرائيلية الرسمية والشعبية بكل حفاوة فاتحا للسياح الأسواق والمتاجر والبازارات والمضافات والفنادق دون الاكتراث بدعوات المقاطعة.

إن هذا الشعب لن يتردد في التعامل بإيجابية مع رفع التجريم عن الإفطار والإجهاض والعلاقات الرضائية؛ ولن تنطلي عليه أكاذيب الإسلاميين وهو يعلم (عبر السياحة إلى تركيا ومتابعة مسلسلاتها) أن تركيا بلد إسلامي مستقر ومتقدم ومتماسك رغم أنه لا يجرّم الأفعال إياها التي يجرّمها القانون الجنائي المغربي. أما أن تزعم الحكومة أن الإفطار في رمضان يستفز الصائمين فيولد لديهم ردود فعل عنيفة ضد المفطرين، فلا شك أن زعمها هذا يحمل تحريضا على العنف ويخلي مسؤوليتها من توفير الحماية لكل المواطنين في الفضاءات العامة والخاصة معا. والاختباء وراء تعلّة “الاستفزاز” من شأنه أن يشجع ذوي النفوس المريضة على مهاجمة الإناث في الشارع العام، أو يغري المجرمين بمهاجمة زبناء البنوك والأسواق الممتازة وبائعي المجوهرات. فالاستفزاز ليس له سبب واحد، وإذا فتحت الحكومة هذا الباب فعلى المجتمع والأمن العام السلام. ذلك أن الأمن العام لا يهدده الإفطار العلني، أو التردد على مصحات التوليد للإجهاض، وإنما يهدده “شرع اليد” والاعتداء على وظيفة الدولة ومؤسساتها الأمنية من طرف من ينصّبون أنفسهم “وكلاء الله”.

إن المكتسبات التي حققها المغرب سواء على المستوى الدستوري أو القانون الأسري أو الانفتاح الاقتصادي أو المستوى الدبلوماسي بحاجة إلى تعزيزها ودعمها ومواكبتها بمنظومة قانونية متطورة. وكل تراجع أو نكوص يمس التزامات المغرب الدولية في مجال حقوق الإنسان والحريات السياسية والمدنية إنما ينعكس سلبا على سمعة المغرب وصورته أمام المنتظم الدولي، ومن ثم على إشعاعه الدولي وجاذبيته للاستثمارات الخارجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock