مدارات

سعيد هادف يكتب: في معنى القومية العنصرية

من موسكو إلى باريس، نعيش اليوم التجليات السياسية للهوية المتأزمة، وآثارها المدمرة. هذه الأزمة ستعرف تعاظما في المستقبل في فرنسا وحتى في مستعمراتها التي مازالت نخبها ولاسيما المغاربية تعاني من أمراض الهوية.

سعيد هادف

يمكننا أن نفهم هذا الوضع التراجيدي في ضوء الأفكار التي نشأت في غمارها نظريات الأمة والنزعات القومية بشقيها: نزعة الأمة المدنية ونزعة الأمة الإثنية. يمكن القول أن الأمة الاثنية لا تخلو من نزوع مدني وأن الأمة المدنية ليست معطى ناجزا بل سيرورة لا تتوقف عن إصلاح نسقها المدني بتفكيك رواسب كل ثقافة إثنية تعمل على اختراق النسق المدني وتحريفه في اتجاه مقاصدها العنصرية.

الحرب الروسية الأوكراينية هي حرب بين نسقين تطغى عليهما النزعة الإثنية، بينما فرنسا تعيش تبعات سوء تدبيرها لوضعها الهوياتي الذي ما فتئ يتغير على مدى القرنين الأخيرين إثر توسعها الكولونيالي ولاسيما في العقود الأخيرة مع موجات الهجرة وما ترتب عنها من تغير ديمغرافي وثقافي للمجتمع الفرنسي.

كانت النزعة الايديولوجية في طابعها الإثني عاملا محوريا في إندلاع الحرب العالمية الثانية التي حملت عددا من البلدان الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا على التحرر من البراديغما الاثنية والانتماء إلى الغرب وأممه المدنية.

اتضح أنه في غياب تدبير عقلاني وانساني لملف الهوية تتعطل ثقافة الحوار والتواصل والاندماج ويطغى العنف وتتضاءل فرص السلام والامن والعيش المشترك.

الثقافة بمعناها الواسع هي مصدر التحولات الايجابية والسلبية ويكفي أن نعود إلى هتلر وكيف استثمر الموسيقار فاغنر والفيلسوف نيتشه للتعبير عن نزعته الآرية وتبرير حربه على أوروبا.

لم يكن فاغنر موسيقارًا فقط، وإنما كان أيضًا شاعرًا وكاتبًا، وكان يتحدث عن نفسه بصفة شاعر الموسيقى، بل وتدخل في مختلف المواضيع الاجتماعية والسياسية والفلسفية، وعكست مقطوعاته الموسيقية أفكاره عن الحياة والعالم والقدر والفلسفة. كان تلميذًا للفيلسوف آرثر شوبنهاور وصديقًا للفيلسوف فريدريك نيتشه.

“موسيقى فاغنر تتحدث بفصاحة بالغة القوة عن رغبات الزنا بالمحارم، وعن النزعة الجنسية غير المقيدة، وعن الكراهية والحقد، وعن الجانب المظلم من الحياة”.

نجد أن أدولف هتلر عشق هذه الموسيقى، ويرى البعض أن هذه الموسيقى قد وفرت الطاقة الدافعة للحركة النازية، وحتى اليوم ما زالت موسيقى فاغنر محرمة في إسرائيل.

يقول أحدهم قد يكون فاغنر أهم نموذج شخصي وإيديولوجي لأدولف هتلر، لكن هل يمكن للمرء أن يجعله مسؤولًا عن استخدام هتلر وإساءة استخدام موسيقاه وآرائه حول العالم؟ هناك موسييقيون إسرائيليون يؤدون أوبرات فاغنر ويجوبون فيها العالم ويقولون “بالرغم من كون آرائه مريعة، لكن ذلك لا يعني تجنب فنه وإهماله فموسيقاه عظيمة وخالدة. الموسيقى منذ لحظة إنتاجها تصبح ملكًا للبشرية”.فاغنر كان معاديا لليهود، ويمكننا أن نطرح السؤال التالي: هل عشق بعض الإسرائيلين لفاغنر يترجم وعيهم الباطني ورواسب ثقافتهم الإثنية؟ هل وجدوا في موسيقى فاغنر ما يتناغم مع نزوعهم المعادي للآخر؟

لا شك أن فاغنر عبقري، لكنه عبقري منحط وفق وصف البعض. لنرى الآن لماذا أصبح اسم فاغنر مصدر الهام الميليشيات الروسية.

يقول الباحث أسامة عكنان: وأخيرا عرفت السر!!‏

لطالما حيَّرني واستثارني السر الذي يقف وراء تسمية المجموعة العسكرية الروسية الخاصة “فاغنر” ‏بهذا الاسم، مع العلم بأنها منظمة عسكرية تضم مجموعة من المرتزقة يقاتلون مقابل المال، في حين ‏أن “فاغنر” هو موسيقار – أي فنان – وألماني وليس روسي. ومع أنني بحثت مطولا في الشبكة ‏العنكبوتية كي أجد تفسيرا لهذه التسمية إلا أن شيئا مما وجدته لم يقدم لي شيئا يُعتد به على ‏الإطلاق.‏

ولكني وعندما وصلت في قراءتي لكتاب: “زمن الغضب/تأريخ الحاضر” الذي أعكف على قراءته حاليا، ‏وهو للمفكر الهندي “بانكاج ميشرا”، إل الصفحة 212، أستطيع أن أزعم أنني وجدت السر الخفي، ‏ليس لأن الكاتب تعرض لمجموعة “فاغنر” وتحرى معرفة أصول تسميتها، فليس في هذا الكتاب أي ‏ذكر لهذه المجموعة، ولا هي قد ورد أي حديث عنها لا من قريب ولا من بعيد على مدى كل صفحات ‏الكتاب التي قرأتها حتى الآن، فهي ليست من موضوعه التاريخي الفلسفي الثقافي السياسي الأوروبي ‏أساسا، وإنما هو – أي الكاتب – تعرض للموسيقار الألماني “فاغنر” في سياق تاريخي له علاقة ‏بألمانيا، وأسهب في تفصيل دوره الفني والثقافي والفكري في بعث الروح الألمانية المعاصرة له في ذلك ‏الوقت.‏

ولأنني اكتشفت أنني أقرأ عن هذا الموسيقار معلومات تتعلق به لم يسبق لي أن عرفتها عنه، فإنني ‏وجدت فيها التفسير الذي كان المؤلف خالي الذهن منه قطعا وبكل تأكيد، خاصة وأن كتابه نشر في ‏العام 2017، عندما كانت مجموعة فاغنر ما تزال أصلا في طور تكوين الذات والتوسع التدريجي..‏

أقول: ولأنني أكتشفت ذلك فإنني سوف أورد لكم بعض ما قرأته عن الموسيقار الألماني فاغنر في هذا ‏الكتاب دون أي تعليق مني، ومنقولا عن المؤلف حرفيا، تاركا لكم وحدكم فرصة الغوص في ‏الإسقاطات والتشابهات والغايات التي ربما تساعدكم على معرفة ما عرفته وفهم ما فهمته، وربما أنها ‏قد لا تعني لديكم شيئا مما عنته لدي. بل ربما هي ستساعدنا جميعا على سبر أغوار مجموعة ‏‏”فاغنر” وغاياتها من خلال ما يمكننا أن نلمسه من إسقاطات، حتى لو لم تكن تلك الأغوار واضحة ‏لدينا بما يكفي قبل هذه المعلومات عن الموسيقار “فاغنر”.‏

يقول المؤلف في الصفحة 212:‏ “كان فاغنر يحقد حقدا راسخا على مدينة باريس، فكتب في العام 1850: “لم أعد أؤمن بأي ثورة ‏أخرى ما عدا تلك التي تبدأ بإحراق باريس”.‏

ويقول في الصفحة 213:‏

كتب فاغنر عندما اندلعت في أوروبا ثورات العام 1848: “إنني أريد أن أحطم قوة الأقوياء والقانون ‏والمَلَكِية”.‏

وجد فاغنر رفيقا متحمسا له في شخص “باكونين” الذي كان يصغره بعام واحد، وكان آنذاك في بداية ‏مسيرته الطويلة كمُرَوِّج للأيديولوجيا الفوضوية اللاسلطوية.‏

ولقد عاش فاغنر قمة النشوة عندما احترقت دار أوبرا “درسدن” التي قاد فيها ذات يوم جوقةَ عزفِ ‏سيمفونية بيتهوفن التاسعة ذات النزعة الديمقراطية، بل إنه اتهم لاحقا بأنه وراء الحريق.‏

وقال الكاتب في الصفحة 214:‏ “جسَّد فاغنر الثورة الرومانسية في نسختها التنبؤية في مسعاها إلى إحلال الإنسان الحديث مكان ‏الرب، بمسحة من جنون العظمة.‏”

ترسخت لدى أفراد الأنتلجنسيا الأوروبية والروسية فكرة أن الرب مجرد صورة مثالية للإنسان وليس ‏خالقا للوجود، ومن بين الكتاب والفنانين الذين اجتهدوا من أجل التأسيس لقيم جديدة مستقلة عن ‏الدين ذهب “فاغنر” بعيدا في محاولته بناء أسطورة بشرية جديدة.‏

أطلق مُنَظِّر الحركة المستقبلية الإيطالية “مارينتي” على “فاغنر” وصف: “أكبر عبقري منحط، وهو لهذا ‏السبب أنسب فنان لأرواحنا الحديثة”.‏

وقال في الصفحة 215:‏ “انتشر تمجيد فاغنر عبر أوروبا من دون اعتبار للحواجز القومية والأيديولوجية، وزعم هتلر أنه استمد ‏تصوره للعالم من مشاهدته في وقت مبكر من مشواره لأوبرا “رينزي” – وهي أوبرا وضع موسيقاها ‏فاغنر – وكتب هتلر يقول بهذا الخصوص: “بدأ كل شيء في تلك الساعة”.‏

‏”أكتفي بهذه المقتطفات عن الموسيقار الألماني فاغنر من الكتاب المُنوَّه إليه”‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock