مدارات

قراءة في مذكرة اقتراحات جماعة العدل والإحسان لتعديل مدونة الأسرة (3/4)

جماعة العدل والإحسان لم تمتثل للأمر الإلهي فتطالب بإلحاق الطفل بأبيه البيولوجي؛ كما لم تطبق ما فعله الرسول (ص) وما أمر به.

سعيد الكحل

3 ـ استلحاق مقطوع النسب بأبيه غير الشرعي

جاء في وثيقة الجماعة ما يلي: “إن الشارع متشوف ‌إلَى “‌ثُبُوتِ الْأَنْسَابِ، وَلَا يَحْكُمُ بِانْقِطَاعِ النَّسَبِ إلَّا حَيْثُ يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُهُ”، ولذا سعت الشريعة إلى توسعة إثبات هذا النسب بالْفِرَاش وَالِاسْتِلْحَاق أو الإقرار، وَالْبَيِّنَة، وَالْقَافَة أو حاليا بالخبرة الجينية”. والمفروض في الجماعة أن تساند مطلب إلحاق الطفل بأبيه البيولوجي أيا كانت العلاقة التي نتج عنها انسجاما مع مقصد الشريعة ومع قولها: ” إن إثْبَات النَّسَبِ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلْوَلَدِ وَحَقٌّ لِلْأَبِ وحق للأم وحق للمجتمع، فينبغي إيلاء كل ذي حق حقه دون شطط أو ميل”، وتفعيلا لصنيع عمر بن الخطاب الذي استشهدت به “ومن هذا الباب أي باب التيسير والائتلاف يفهم صنيع عمر رضي الله عنه الذي كَانَ يُلِيطُ أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ ادَّعَاهُمْ فِي الْإِسْلَامِ”.

يبدو أن الجماعة لا تأخذ بكل جدية حقائق الواقع التي كشفت عنها عدة هيئات مدنية، والتي تعكسها المعطيات التالية:

دراسة أجرتها الجمعية الوطنية للتضامن مع النساء في وضعية صعبة، المعروفة اختصارا بجمعية “إنصاف“، خلصت إلى أن مجموع النساء العازبات بين سنة 2003 و2010 بلغ 270 ألف أم عازبة، و24 طفلا متخلى عنه يوميا.

كما بلغ عدد الأطفال المتخلى عنهم بين سنتي 2004 الي 2014 ما مجموعه 9400 طفل. ـ المركز المغربي لحقوق الإنسان حدد عدد الأطفال الذين يولدون يوميا بالمغرب خارج مؤسسة الزواج في 150 طفل بدون هوية الأب. نصف هؤلاء الأطفال يعتبرون “أطفال شوارع”. ـ تقريران لرئاسة النيابة، يبينان أن مجموع عدد الأطفال المهملين قد بلغ، خلال سنة 2018 و2019، حسب تدخل النيابة العامة، 4458 طفلا. لم تجسر الجماعة على تبني موقف عمر بن الخطاب الذي كان يُليطُ الأطفال بآبائهم البيولوجيين، سواء ادّعوْهم أو أنكروهم. كما لم تلتزم بما أعلنته في مستهل المذكرة الاقتراحية من كونها “منطلقة من مرجعيتها الدينية المستندة إلى القرآن الكريم والسنة المشرفة، وإلى الاجتهاد المؤسس على المقاصد الشرعية العامة، وعلى القوي مما خلفه علماؤنا في الفروع والأصول”؛ ولا احترمت سعي “الشريعة إلى توسعة إثبات هذا النسب بالْفِرَاش وَالِاسْتِلْحَاق أو الإقرار، وَالْبَيِّنَة، وَالْقَافَة أو حاليا بالخبرة الجينية.”

ذلك، أن الجماعة فضلت الجمع بين الموقفين المتباينين كالتالي: “إن القول بقطع نسب ابن الزنى بإطلاق أو باستلحاقه بأبيه غير الشرعي بإطلاق قول غير منسجم مع قاعدة اليسر الشرعي لطفا بالعباد من إيقاعهم في العنت والحرج، وفي الآن ذاته غير منسجم مع واقع يجنح فيه المفسدون إلى تفتيت نواة الأسرة والقضاء على بيت الزوجية، وتعويضه بعلاقات خارج الزواج أو خارج الفطرة الإنسانية”. ولعل مبرر الجماعة يتضمن مغالطة كبيرة واتهاما لمن يطالب بإلحاق الطفل بأبيه البيولوجي بالسعي إلى “تفتيت نواة الأسرة والقضاء على بيت الزوجية..” وهذا مناف للحقيقة ولمقاصد الشريعة والأمر الإلهي (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله).

فالجماعة لم تمتثل للأمر الإلهي فتطالب بإلحاق الطفل بأبيه البيولوجي؛ كما لم تطبق ما فعله الرسول (ص) وما أمر به.

وقد سلك الرسول والصحابة من بعده عدة أساليب لإثبات النسب، ومنها: القرعة والقيافة. فما كان يشغل الرسول والمسلمين هو إلحاق الابن بأبيه الحقيقي بغض النظر عن كون الطفل “شرعي” أو “غير شرعي”. وظلت تقنية القيافة أكثر وثوقا من بين باقي التقنيات التي كانت معروفة ومعمولا بها.

وهذه بعض الوقائع التي أقرها الرسول (ص):

ــ قصة ملاعنة هلال بن أمية مع امرأته، وفيه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “أبصروها فإن جاءت به أكحلَ العينينِ سابِغَ الأَليتينِ خَدَلَّجَ الساقينِ فهو لشريك بن سمحاءَ، فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن.”

ــ روى ابن عيينة، عن الأجلح بن عبد الله الكندي، عن الشعبي، عن عبد الله بن الخليل، عن زيد بن أرقم، قال: (أتي علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – باليمن في ثلاثة نفر، وقعوا على جارية في طهر واحد، فجاءت بولد، فجاءوا يختصمون في ولدها فقال على لأحدهم: تطيب نفسا، وتدعه لهذين؟ فقال: لا، وقال للآخر مثل ذلك، فقال: لا، وقال للآخر مثل ذلك، فقال: لا، فقال: أنتم شركاء متشاكسون، وإني أقرع بينكم، فأيكم أصابته القرعة ألزمته الولد، وغرمته ثلثي القيمة، أو قال ثلثي قيمة الجارية، فلما قدموا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ضحك حتى بدت نواجذه، وقال: ما أعلم فيها غير ما قال علي).

وقائع قضى فيها الخليفة عمر بن الخطاب

ــ عن مالك عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: أن عمر بن الخطاب كان يُليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام، فأتى رجلان، كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا عمر بن الخطاب قائفا، فنظر إليهما، فقال القائف: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر بن الخطاب بالدرة، ثم دعا المرأة فقال: أخبريني خبرك فقالت: كان هذا – لأحد الرجلين – يأتيني، وهي في إبل لأهلها. فلا يفارقها حتى يظن وتظن أنه قد استمر بها حبل. ثم انصرف عنها، فأهريقت عليه دماء، ثم خلف عليها هذا، تعني الآخر، فلا أدري من أيهما هو؟ قال فكبر القائف، فقال عمر للغلام: وَالِ أيهما شئت.

واقعة قضى فيها عبد الله بن عمر

عن عبد الله بن عمر عن نافع قال: (كانت جارية لابن عمر، وكان له غلام يدخل عليها، فسبّه أو فسببته، فرآه ابن عمر يوما، فقال: أحامل أنتِ؟ قالت: نعم، قال: ممن؟ قالت: من فلان، قال: الذي سبّه أو سببته، قالت: نعم، فسأله ابن عمر، فجحد، وكانت له إصبع زايدة، فقال: له ابن عمر: أرأيت إن جاءت به ذا زايدة؟ قال: هو إذن مني، قال: فولدت له غلاما له إصبع زايدة، قال: فضربهما ابن عمر الحدّ، وزوّجها إياه، وأعتق الغلام الذي ولدت). أقوال الأئمة والفقهاء المؤيدة لإلحاق الابن بأبيه البيولوجي:

ــ روى الإمام مالكٌ في «الموطَّإ»: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يُلِيطُ أَوْلَادَ الجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ ادَّعَاهُمْ فِي الإِسْلَامِ» أي: كان يُلحِقُهم بهم وينسبهم إليهم وإِنْ كانوا لِزنيةٍ، وقد روى عيسى عن ابنِ القاسم في جماعةٍ يُسلِمون فيستلحقون أولادًا مِنْ زِنًا، فإِنْ كانوا أحرارًا ولم يدَّعِهم أحَدٌ لفراشٍ فهُم أولادُهم، وقد أَلاطَ عمرُ رضي الله عنه مَنْ وُلِد في الجاهليَّة بمَنِ ادَّعاهم في الإسلام، إلَّا أَنْ يدَّعِيَه معهم مَنْ أمَّهاتُهم فراشٌ له وهو سيِّدُ الأَمَةِ أو زوجُ الحرَّة.

ــ كما أيده ابنُ القيِّم بقوله: “والقياس الصحيح يقتضيه، فإنَّ الأب أحَدُ الزانيَيْن، وهو إذا كان يلحق بأمِّه، ويُنسَبُ إليها، وتَرِثُه ويَرِثها، ويَثْبُتُ النَّسَبُ بينه وبين أقاربِ أمِّه مع كونها زنَتْ به، وقد وُجِد الولدُ مِنْ ماء الزانيَيْن، وقد اشتركا فيه، واتَّفَقا على أنه ابنُهما، فما المانعُ مِنْ لحوقه بالأب إذا لم يدَّعِه غيرُه؟ فهذا محضُ القياس.”

ــ وقال ابن القيم: ” إثْبَاتَ النَّسَبِ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ، وَحَقٌّ لِلْوَلَدِ، وَحَقٌّ لِلْأَبِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ مَا بِهِ قِوَامُ مَصَالِحِهِمْ، فَأَثْبَتَهُ الشَّرْعُ بِأَنْوَاعِ الطُّرُقِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا نِتَاجُ الْحَيَوَانِ.”

ــ وروى الدارمي في “السنن” عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: ” أَيُّمَا رَجُلٍ أَتَى إِلَى غُلَامٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنٌ لَهُ وَأَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ، وَلَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْغُلَامَ أَحَدٌ: فَهُوَ يَرِثُهُ “. قال المالكية: لا يُعتبر في الاستلحاق تحقق تزوّج المستلحِق (بالكسر) بالمستلحَق (بالفتح) أو تملّكه أمَّه إن كانت أمُّه أمَة. قال ابن عبد السلام: “لأنهم اعتبروا في هذا الباب (الاستلحاق) الإمكان وحده ما لم يقم دليل على كذب المُقِرّ.

بل إن المالكية ذهبوا إلى القول بصحة استلحاق أحدٍ ميتا. أي يصح استلحاق أحدٍ كبيراً ولا يشترط تصديق المستلحَق على أصح الطرق في المذهب”. كل هذه الأحاديث النبوية والاجتهادات الفقهية لم تقنع الجماعة بالانتصار، كلية، لمطلب إلحاق الطفل بأبيه البيولوجي، معللة ذلك بكون “استلحاق مقطوع النسب بأبيه غير الشرعي متوقف على قرائن الأحوال، من ذلك ذيوع خبر ولادة هذا الولد من زنى أو عدم شيوع خبره، وكون الزانية من محارمه أو أجنبية عنه. كل هذا وغيره متوقف على قول القضاء في ذلك”. فالجماعة لم تقترح اعتماد البصمة الوراثية حين ينكر الأب البيولوجي أبوته أو يرفض إلحاق ابنه الطبيعي به. فهي أحالت الأمر إلى القضاء دون اقتراح الوسائل التي يمكن اعتمادها. وبدل ذلك قدمت مقترحات منها:

ــ “ضرورة تجريم الزنى وإلحاق العقوبة بالمقترفين له”. وهذا طلب لن يفيد الأطفال الناتجين عن علاقة خارج إطار الزواج، خصوصا الذين تم التخلي عنهم..

ــ تحميل الطرفين مسؤولية فعلهما بدل إلقائها على المرأة وحدها.

ــ تزويج الطرفين بعقد شرعي.

ــ “ضرورة رعاية الدولة ومؤسسات المجتمع المدني للأولاد غير الشرعيين وصيانتهم”.

اقتراحات ستحل جزءا من المشاكل بينما يبقى الجزء الثاني مطروحا، بحيث لم تراع الجماعة الآثار النفسية والاجتماعية للأطفال مجهولي النسب والذين سيعيشون بدون هوية ومنبوذين من طرف المجتمع وهم أبرياء يدفعون ثمن أخطاء الآباء البيولوجيين والقانون والمجتمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock