كرونيك

مطعم الداخلية

ما إن بدأ توزيع الأكل داخل مطعم المدرسة الداخلية العمومية، حتى وقف جميع النزلاء. كان الجميع متأهبا للاحتجاج القادم.

غادر حوالي 60 تلميذا نحو فسحة تقع بين مراقد النوم والمطعم، ثم ارتفعت شعارات منظمة مرفوقة بالتصفيق والصفير.

الجمع الصغير المحتج يتكون في أغلبيته من أبناء فلاحين وكسابين صغار، يقطنون بعيدا عن الثانوية وليس في متناولهم أن يؤمنوا وسيلة نقل يومية تضمن جولة عبر وسيلة نقل محترمة، ذهابا وإيابا إلى المركز القروي الصغير حيث يدرس أبنائهم.

ثم إن المسالك والطرق الجبلية المؤدية إلى مساكن هؤلاء صعبة، وأحيانا خطيرة.

توفر داخلية المؤسسة المبيت والأكل للوافدين، وبذلك يضمن أهاليهم استفادتهم من حق التعليم، وربما يحلمون أيضا بمستقبل أقل تعبا وأكثر أمانا لهم.

يحشر التلاميذ الداخليين في عنابر فسيحة، تؤثثها أسرة متهالكة وخزانات معدنية زخرفتها كتابات من مروا من المكان.

اما الطعام، فمتواضع مثل سكان الجبال التي تحتضن القرية والمدرسة والداخلية والفقر مجتمعين.

سبب الاحتجاج هو اكتشاف جثة حشرة صرصار داخل صحن حساء أحد النزلاء.

ومثل الرصاصة المشهورة في كتب التاريخ والتي أردت ولي عهد النمسا قتيلا، لم يكن الصرصار إلا السبب المباشر لاندلاع الاحتجاج، كما كانت الرصاصة سببا مباشرا لبداية الحرب العالمية الأولى.

اما الأسباب الأخرى، فهي رداءة الوجبات وهزالة  كمية الطعام.

الحليب لم يكن يشبه الحليب كما عهده أبناء البادية، بل كان أقرب في كثافته وذوقه منه إلى الماء، ولم يكن في حقيقته، إن كان للحليب حقيقة، سوى ماء أضيف إليه نزر قليل من غبار أبيض.

استمر النزلاء إذن بالصبر والتظاهر بحب الحليب المغشوش، وأحجار العدس التي لم تكن كريمة، بل مؤذية إذا لم يحترس منها من يلتهم وجبته شارد الذهن. قطع اللحم الصغيرة تسبح داخل صحن المرق الملون والمنكه بمساحيق تجارية رخيصة  تترك مذاقا غير مذاق الأكل المفروض أن يستهلكه البشر.

الوضع مزر منذ مدة قبل الاحتجاج، والغضب كان يتربص لحظته ليأخذ مكان الخوف من العقاب، الذي كان المسؤولون عن الداخلية يشهرونه فزاعة في وجه ضيوفهم الصغار صباح مساء.

إذن، هو احتجاج وغضب يشبهان ثورة صغيرة.

حضر المفاوضون من كل الاختصاصات، فيما اصطحب بعض منهم، من ذوي الاختصاص، أفرادا من القوة العمومية تحسبا لكل تعنت أو إصرار من طرف المحتجين.

أظهر المفاوضون حكمة كبيرة وهم يتفحصون جثة الصرصار. بل و ثقافة كونية دون حدود، أذهلت المحتجين أنفسهم. فالأكل القليل راحة للجسد والنفس، كما أن استهلاك الحشرات فيه منافع لا تحصى، كما يؤكد علماء من الصين وكمبوديا ودول شقيقة وصديقة أخرى في الشرق الآسيوي، حيث تباع الحشرات مثل الخضار والسمك.

تأكد زعيم المحتجين أن الأشياء لن تتغير أبدا، وسيستمر الوضع كما عهده النزلاء.

“ارجعوا لنا صرصورنا، هذا كل ما نريد، ولا شيء أخر!”

في الخاتمة، أتساءل كلما تذكرت هذه القصة، إن كان علينا نحن أيضا أن نطالب بحياتنا السابقة بكل صراصيرها، قبل عشرين فبراير وقبل حكومات “الإصلاح” المتتالية وقبل كوفيد.

أما أبطال قصتي، فقد استمروا في التعايش مع الصراصير ردحا من الزمن قبل أن يأتي الفرج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock