إعلام

التربية الإعلامية لتحصين الجمهور من الانفلات الإعلامي والرقمي

هذه الوسائل الرقمية الجديدة بدأت بالتأثير الإيجابي على المستخدم، روَّجت للأفكار والثقافات وسهّلت استخدامات عديدة ومُتنوعة، وأصبحت أكثر من مُجرد وسيلة لبثّ الأخبار والمعلومات، بل أنها تغلغلت في المجتمعات ودخلت بكل ما تحمله من قوة إلى البيوت.. ويمكن القول الآن أنها هي من تقود العالم اليوم وتُوجّههم عن طريق التأثير عليهم بالأفكار والمعلومات.

بشرى. ن صحافية من مدينة وهران/الجزائر

يعيشُ العالم اليوم، ومن جديد، نقلة نوعية في مجال الإعلام والاتصال بظهور التكنولوجيا الحديثة التي ساهمت في ظُهور وسائل رقمية جديدة ومواقع الكترونية غرِيبة عن المألوف. لقد بدأ الاتصال بداية متواضعة مع استخدام الإنسان القديم لوسائل بسيطة استطاع أن يتواصل مع الإنسان الآخر عن طريق النار، الرموز، الأصوات، الحركات، إلى أن اُخترعت الكتابة والطباعة، مروراً بتغيّرات جديدة كانت وراء ظهور وسائل الإعلام التقليدية التي غيّرت العالم عن طريق ثورة حقيقية، فظهرت الصحف، السينما، التلفزيون، الإذاعة، وصولاً إلى مرحلة الانترنت وظهور الإعلام الجديد ووسائطه المختلفة.

تأثير إيجابي

هذه الوسائل الرقمية الجديدة بدأت بالتأثير الإيجابي على المستخدم، روَّجت للأفكار والثقافات وسهّلت استخدامات عديدة ومُتنوعة، وأصبحت أكثر من مُجرد وسيلة لبثّ الأخبار والمعلومات، بل أنها تغلغلت في المجتمعات ودخلت بكل ما تحمله من قوة إلى البيوت.. ويمكن القول الآن أنها هي من تقود العالم اليوم وتُوجّههم عن طريق التأثير عليهم بالأفكار والمعلومات.

في بداية ظهورها، كانت تسهل التواصل مع الناس والأصدقاء بدون التقيّد بعراقيل الزمان والمكان، شجّعت أيضا على نشر الإبداعات والأعمال، استخدمت هذه الوسائل قوى خاصة للتكيّف مع المجتمعات، بالإضافة إلى أنها قدمت أنواعاً متطورة ومبتكرة من المحتويات، كذا كانت تسهل الحصول على الوظائف الالكترونية، وساهمت في الوصول إلى الأبحاث العلمية، ووفرت كذلك المعلومات في كل المجالات، لكن اختلف كل شيء الآن مع ظهور تطبيقات غريبة ومختلفة وازدياد مواقع تواصلية غير هادفة، كما انتشرت عدة ظواهر دخيلة عن المجتمعات مثل “البوز أو ما يُعرف بالشهرة الرقمية” وغيرها، حتى صار المستخدم يلهثُ وراء الأخبار والفيديوهات التافهة، حتى تفاقمت وأصبحت ظواهر عادية.

في ضوء هذه التغيرات الجديدة، عاود ظهور مفهوم جديد في الساحة الإعلامية هو مفهوم قديم لكنه الآن انقشَع مرة أخرى بطريقة مختلفة عن الأولى، سُمّي بالتربية الإعلامية وعُرف كتغيير إعلامي جديد على أنه مهارة التعامل مع المعلومات وكيفية استقبالها، تحليلها، نقدها و تقييمها من طرف الجمهور المستخدم، والهدف منه هو أن يتمكن الأخير من التّعامل مع لغة الإعلام بوعي، لاكتساب المهارات المعرفية وتطويرها و تفعيل التفكير النقدي في وسائل الإعلام، إعداده لفهم الثقافة الإعلامية و ُسن انتقاء ما يستهلكه لكي يتعامل معها بصورة إيجابية، كما يُمكنه من تفسير المواد الإعلامية بطريقة صحيحة وموضوعية وتكوين آراء واعية وناضجة، وكذا تمييز الأخبار الكاذبة من الصحيحة والتعرف على أنواع خطابات الكراهية كي لا يتأثر به‍ا، خاصة أن الوسائل الرقمية أصبحت تُؤثر بطريقة سلبية على المستخدم بعدما كانت وسائل تزيح عنه همّ الوصول إلى الأخبار والمعلومات واكتشاف العالم بطريقة مُغايرة.

من مستهلك إيجابي الى مستهلك سلبي

في ظل سرعة المعلومات التي تأثر بها المُستخدم تغيّر تفكيره وموقفه أيضاً بدخول التكنولوجيا الجديدة في حياته، بات يعتمد عليها في الحصول على المعلومة ومشاركتها حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياته، خاصة أنها سهلت له الدخول إليها والحصول على مختلف المعلومات وفي مجالات مختلفة دون تكلفة. هذه الوسائل همَّت توجّهه وتُؤثر عليه بطريقة نوعا ما سلبية وشرع يتحول من مستهلك إيجابي الى مستهلك سلبي، وفقد السيطرة على تحكمه بتلقي المعلومة، وما فتئ يتلقى عدداً كبيراً منها دون أن يميز بينها وبين المعلومات الصحيحة، من جهة أخرى صار يتابع عدة مواضيع اجتماعية على مواقع التواصل وتأثر بها إلى حد كبير.

هذا التأثر أمسى العالم يراه في شخصيته التي صارت عدوانية وتميل للكراهية والعنف والسلبية وتفاقم كل هذا لتنتشر عدة ظواهر خطيرة على المجتمع مثل الابتزاز الالكتروني، التنمر، انتشار خطابات الكراهية، والجرائم الالكترونية، أما الأخير أضحى دوره دور المتلقي الصامت الذي يأخذ المعلومة ويتبناها دون أن يفهم محتواها ونوعيتها على غرار قضاء مُعظم وقته عليها.

هذه الميديا الجديدة جعلت من المستخدمين متلقين منعزلين ومجهولين لا يعرفون كيف يتواصلون مع أنفسهم ومع بعضهم البعض، صارت أهم اهتماماتهم هي التسلية وإمضاء الوقت عليها، بالرغم من أن أغلب المستخدمين أصبحوا على علم بهذه التغيرات والتأثيرات السلبية التي حاطت بهم لكنهم يفتقدون لمهارات يمكنها أن تمُدهم الوعي الكافي بكيفية التعامل مع هذه الوسائل.

من هنا، بدأ اليوم التفكير بإعادة تبني هذا النوع من التربية والتأكيد على ضرورة تفعيلها في المجتمعات العربية لحل هذه الظواهر التي تفاقمت نتيجة عدم الوعي الالكتروني، خاصة أن هذه الأخيرة ستُعطي للمستخدم وعي جديد يمكّنه من استخدام هذه التكنولوجيا بشكل متوازن.

التربية الإعلامية

ظهر مفهوم التربية الإعلامية تزامناً مع ظهور الإعلام المكتوب لأول مرة في عام 1631، حيث بدأ الاهتمام بالجانب التربوي الإعلامي في المدارس عندما أكّد الخبراء على أهمية تدريب الأطفال على فهم وفحص الرسائل الإعلامية التي يمكن أن يتعرضوا لها.

اعتبرت التربية الإعلامية على أنها مشروع دفاع الإعلام يتمثل في حماية الشباب والأطفال من مخاطر الإعلام ولكشف الرسائل المزيفة.

مع ظهور السينما في 1895 انتقل مفهوم التربية إلى بعض الأفلام السينمائية عندما ظهر مفهوم محو الأمية السمعية البصرية بالتركيز على الصور والأفلام من خلال المدرسين والطلاب في المدارس الأوروبية.

بدأ ينظُر إلى التربية الإعلامية في سبعينات القرن على أنها التربية بشأن الإعلام والتكنولوجيا، وفي التسعينيات تطور مفهوم التربية الإعلامية مع ظهور الانترنت ومصطلح صحافة المواطن. حيث بدأ الجمهور هو من ينتج المعاني ويتفاعل ويعالج الرسائل الإعلامية في الشبكة العنكبوتية.

كما أسس المفكر باري دنكان جمعية محو الأمية الإعلامية عام 1978 بكندا مع زملاءه وكان رئيسها، عمل على كيفية تدريب الأطفال حول كيفية فهم الرسائل الإعلامية، وكان من أهم المفكرين الذين ساهمُوا في الدعوة إلى تبنّي التربية الإعلامية في المدارس الكندية. قامت أيضا اللجنة الأوروبية آنذاك بتمويل مشروع يوفر للمعلمين المهارات الأساسية لتدريس الإعلام ليتمكن الطلاب من فهم هذه الرسائل.

وصدر إعلان جرانولد الإعلان الذي صدر عن ندوة اليونسكو عام 1982 للتعليم الإعلامي في ألمانيا الغربية، والذي أوضح على ضرورة إدخال التربية الإعلامية في المجتمع وتشجيع الحس النقدي من طرف الأنظمة السياسية والتربوية، والمشاركة الفعلية للمواطنين في وسائل الإعلام التقليدية والحديثة.

أما في عام 1999 عرف مؤتمر التربية بفيينا أهداف ومبادئ تخصُّ التربية الإعلامية التي ينبغي أن تُطبق لتعليم أفراد المجتمع لفهم الرسائل الإعلامية وأكّد أن التربية الإعلامية هي جزء وحق لكل مواطن ليضمن حقه في التعبير عن رأيه.

مع ظهور الإعلام الجديد في القرن 21 الذي دمج الإعلام التقليدي والرقمي، انتشر مفهوم التربية الإعلامية بشكل واسع، وبدأت تدعمه الكثير من البحوث والدراسات وتبنّته عدة دول مثل كندا، اسكتلندا وبريطانيا، على غرار دول أخرى تبنّت أسس التربية الإعلامية لكن لم تتوفر بها مواد للتدريس ولم يتم إنتاجها مثل ايطاليا، الهند، الفليبين، وإيرلندا. كانت هناك أيضا جهود لملء الفراغ في برامج الشباب في الجماعات الغير حكومية مثل أمريكيا ودول العالم الثالث. وقد أثبت مشروع التربية الإعلامية أهميته الاجتماعية والسياسية والثقافية في معالجة القضايا الشائكة، لكن سُرعان ما عرف هذا المفهوم ركوداً وتهميشاً إعلامياً واجتماعياً.

أهمية التربية الإعلامية في السياسات العامة

بدأت التربية الإعلامية الآن تحتل مكاناً متميزاً في السياسات العامة وتعتبر مجالا ً مستقلاً بذاته في الدول الغربية يعتمد على نفسه في إنتاج أبحاثه ومُمارساته الخاصة والخضوع لسياسته في البيئة الإعلامية والرقمية، ويعتبر أيضا موضوعاً جديداً للبحث والمعرفة، وعاود الانبثاق كنوع من الاستجابة الإعلامية والاجتماعية لفهم ما يحدث في الساحة الإعلامية.

لكن لا تزال دول الوطن العربي متأخرة في استعمال هذا المصطلح وتطبيقه في مجتمعاتها. يظهر واقع التربية الإعلامية في الجزائر أن وجودها ضعيف جداً مقارنة بالدول الغربية، حيثُ لم تعرف التربية الإعلامية التطور والانتشار بعد، سواء في المؤسسات التعليمية، المؤسسات الإعلامية، المجتمع المدني، والأسرة

إن مجال التربية الإعلامية الآن هو مجال معقد و غير مستقل بذاته في الوطن العربي، فقد لاحظنا في المؤسسات التعليمية غياب مادة التربية الإعلامية في المقررات الدراسية وعدم وجودها كمادة مستقلة، كما أن هناك غياب لمصطلح التربية الإعلامية أيضا في المؤسسات الإعلامية بشكل كبير حيث لم يتعرف أغلب الصحفيين عليه و أجزموا بأن ليس هناك دورات تدريبية أو ممارسات لتعلُّمه، أما في المحيط الأسري هناك وعي لدى الأولياء بأن هناك مخاطر ظهرت مع مجيء الإعلام الرقمي إلا أنها تفتقر للمهارات الكافية لتعليم أبناءها ماهية التربية الإعلامية، أما في الجمعيات الإعلامية أغلبها لم تقم بأنشطة حول تعليم التربية الإعلامية ولا يزال هذا المفهوم لديها غائبا، أما في المجتمع الجزائري، لم يتعرف أفراد المجتمع على مصطلح التربية الإعلامية لكن لديهم وعي بأننا في عصر وسائل رقمية أثرت ولازالت تُؤثر عليهم بشكل سلبي ولابد من إيجاد حل للتعامل بوعي معها.

وهذا ما يُمكًننا من قول إنه حان الوقت لتفعيل التربية الإعلامية لتحقيق أهدافٍ تربوية، إعلامية، سياسية، واجتماعية يُمكنها أن تفيد المجتمع في مواجهة تحديات هذا الفضاء الرقمي، وتمكينه من أن يُصبح مُستهلكاً حكيما للمضامين الإعلامية دون الوقوع في هذه الحرب الرقمية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

 Seraline J, les nouveaux médias remplacent-ils les médias traditionnels, 27 janvier 2023 / http://explorers.mc2i.fr

[2] Record A, en quoi l’éducation aux médias par la presse écrite permet de développer l’esprit critique et les compétences sociales et civiques d’élèves de CM1,mémoire du master de l’enseignement de léducation et de la formation, école supérieure du professorat de l’éducation et de l’académie de Nantes, université de Nantes France , 2015, page 40

[3] Hobbs R, media leteracy, Barry Ducan , electronic article, shool of communication and média- Université of Rhode island Davis, Etats Unis / http://grandparentsofmedialiteracy.com

[4]  الإعلام التربوي و التربية الإعلامية ، منصة ايدوفس، 25 جانفي 2022

http://www.edufse.com/media.html [5]  محمد على العقاري، تطور مفهوم التربية الإعلامية في ضوء التجارب الإعلامية ، ورقة علمية مقدمة لملتقى الرابطة العربية للبحث العلمي بعنوان المسؤولية الاجتماعية و الأخلاقية لوسائل الإعلام والاتصال، 27 نوفمبر 2021 الجامعة اللبنانية بيروت ، منصة اليوتيوب.

 [6] Lyonnais P, approches pédagogiques de l’éduction critique aux médias au niveau collégial, mémoire présenté comme exigence partielle de la maitrise en communication, université du Québec à Montréal, Canada, 2008, page 2.

[7] Loicq M, de quoi l’éducation aux médias numériques est-elle la critique ? vol 11, N 1, 2 ème semestre, Université de Paris 3 France, 2017, ISSN électronique, page 142 /http://journals.openedition.org

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock